"أسرار" رياض سلامة
من دون سابق إنذار، حُوّل حاكم المصرف المركزي اللبناني السابق، رياض سلامة، إلى التحقيق لدى القضاء اللبناني، بل ستبدأ محاكمته في غضون أيّام. لا أحدَ فعلياً أدرك ما حصل، خصوصاً أنّ القضاء نفسه وقف سدّاً منيعاً أمام تسليم سلامة لدول أوروبية، عبر سحب جواز سفره منه ومنعه من السفر. إذاً، ما الذي جرى ليُصبح الرجل بشكل مباغت خلف القضبان؟
نحن في لبنان، أي في بلاد لا تشبه برمزيتها العصاباتية أيّ دولة مماثلة، حتّى إنّ المواطنين اللبنانيين يتحدّثون بكلّ ثقةٍ عن أنّ هناك "مُخطّطاً لتبرئة سلامة لمنع تسليمه نهائياً إلى أيّ دولة"، ثم يتابعون حياتهم الاعتيادية. يكفي هذا للإشارة إلى أنّه، في هذه البلاد، تتصدّر لائحة السوابق المماثلة لجهة التغطية على مرتكبين، التحليلات الممكنة كلّها بشّأن مطلق حدث، بما فيه توقيف سلامة.
يتحدّث كثيرون حالياً عن أسرارٍ للرجل قادر على فضحها ورميها في وجه طبقةٍ انتفعت منه ونفّعته في عقود سالفة. لكن أيضاً، هناك حالةٌ قريبةٌ بعض الشيء من سلامة، تحديداً بما يتّصل بـ"الأسرار المخفيّة"، وهي حالة قائدِ القوات اللبنانية الراحل إيلي حبيقة، الذي اغتيل في عام 2002 قبل الاستماع إلى إفادته بشأن مجازر صبرا وشاتيلا في بروكسل. قيل وقتها إنّ حبيقة يملك أسراراً عن حرب لبنان كان ينوي فضحها. الرجل اغتيل ولم تُكشَف "الأسرار". ما الذي يُؤكّد في وضعية سلامة أنّه مستعدّ لكشف "الأسرار" في بيروت؟
بالطبع، لن يفعل ذلك، في حال فعلاً كان هناك نيّةٌ لمحاكمته لا لحمايته. فلو كان فعلاً يرغب في تصفية ذهنه لكان من الأفضل تسليم ما يملكه كلّه إلى أيّ قضاء غير لبناني.
ماذا لو أراد بعضهم تخيّل، والخيال أب الواقعية وأمّها، الخطوات المقبلة في رحلة سلامة القضائية، ما الذي سيناله أجوبةً؟... في البداية، عليه التشكيك في كيفية مثول سلامة أمام القضاء، فيما امتنع سابقاً عن تسليم نفسه. ثمّ على أيّ شخص الاعتقاد بأنّ هناك كميناً سياسياً مالياً يُحاك لسلامة للتضحية به كبشَ محرقةٍ منفرداً في الأزمة المالية العاصفة بلبنان. الأكثر أهمّية طرح سؤال عمّن المستفيد والمختبئ خلف تسليم سلامة، كي ينجو بنفسه. هارفي لي أوزوالد قتل جون كينيدي، وجاك روبي قتل أوزوالد، ثم مات بسرطان الرئة. وبعد؟... لا تزال قضية اغتيال كينيدي لغزاً منذ مقتله في عام 1963.
وإذا جرى الافتراض أنّ قضاءً لبنانياً استيقظ من سباته بشكل غريب، فماذا لو أكمل هذا القضاء معروفه لمحاسبة من تسبّب بانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، ومحاسبة من أغرق بيروت بمياه الصرف الصحّي وروائحها في شتاء 2018 ـ 2019، بعد إقفاله أنابيبها بسبب بناء فندقه؟ أكثر من ذلك، أيّ قضاء سيتحرّك من أجل إحقاق حقّ اللبنانيين في ملفّ الكهرباء، التي تجاوز ما صُرف عليها 45 مليار دولار بعد انتهاء الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، فيما نتسوّل سفينةً جزائريةً من هنا، وتبرّعاً عراقياً من هناك، من أجل ساعتَين أو أربع ساعات حدّاً أقصى من الكهرباء يومياً؟ من الذي سيعيد ما تبقّى من الودائع المهدورة في المصارف؟
ليست المشكلة هنا في محاكمة سلامة، بل بالعكس، تجب ملاحقته حتّى آخر نَفَس لتحقيق المحاسبة. غير أنّه من يضمن أنّ القضاء سيواصل عمله الهجومي لمعاقبة الجميع؟... لا أحدَ يضمن ذلك. في الأساس، إنّ غالبية القضاة محسوبون على أطراف سياسية. لا يمكنكَ في الأصل الولوج إلى السلك القضائي أو الترقّي فيه ما لم تكن منتمياً إلى حزب ممثّلٍ طائفةً. الاختيارات بموجب الكفاءة منعدمة في لبنان. لذلك، لا يجب توقّع كثيرٍ في قضية سلامة، تحديداً لأنّ الطرف الذي يحاكمه اليوم هو نفسه الذي رفض محاكمته بالأمس، فما الذي تغيّر؟