أفريقيا ورحلة البحث عن الفيتو
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
شهدت دورة الجمعية العامة للأمم المتّحدة في الشهر الماضي (سبتمبر/ ايلول) عودةً لافتةً إلى موضوع قديم متجدّد، يتعلّق بالمطالبة بإصلاح مجلس الأمن، من أجل تعزيز مكانة الأمم المتّحدة ودورها على الصعيد العالمي، وذلك بالدعوة إلى مراجعة احتكار الخماسي دائم العضوية لحقّ النقض (الفيتو). فالإجماع قائم في صفوف المشاركين على أنّ المنظومة الدولية التي بلغت 80 عاماً بحاجة إلى تجديد في الأجندة والهياكل والأدوات للقيام بأدوارها بشكل فعّال، حتّى لا تتحوّل منصّةً بلا جدوى. كانت أفريقيا الأكثر اهتماماً بهذا النقاش، فقد حضر ممثلو 54 دولة في القارّة، ما جعلهم يمثّلون ما يقرب ثلث الحضور؛ فـ25 من أصل 71 رئيساً شهدوا أشغال هذه القمّة كانوا من أفريقيا. كما سجّلت القارة حضورها بانتخاب الكاميروني فليمون يانغ رئيساً لهذه الدورة، فضلاً عن تخصيص البند الثالث ضمن البنود الثمانية الرئيسة في جدول الأعمال لموضوع "تنمية أفريقيا".
يطمح هذا الوجود الأفريقي الوازن إلى معالجة الظلم التاريخي الذي تعرّضت له القارّة، باستبعادها من مجلس الأمن سبعة عقود، فالمقاعد الثلاثة غير الدائمة في المجلس صارت جزءاً من إرث الحقبة الاستعمارية، ولم تعد متناسبةً مع حجم وموقع أفريقيا؛ فهي ثاني أكبر قارّة من حيث عدد السكّان باحتضانها 1.4 مليار نسمة؛ أي ما يعادل 18% من إجمالي سكّان العالم. في المقابل لا تتعدّى ساكنة أوروبا 10%، وتحظى بمقعدين دائمين (فرنسا والمملكة المتّحدة)، فضلاً عن أنّ أكثر من ثلث اجتماعات المجلس عام 2023 كانت حول أفريقيا، وأكثر من نصف قراراته تتعلّق بقضايا الأمن الأفريقي.
لذلك كلّه تسعى أفريقيا اليوم إلى انتزاع تمثيلية توازن 28% من عضوية الأمم المتّحدة التي تمتلكها، في محاولة بعزم أكثر هذه المرّة، على اعتبار أنّ هذه المساعي ليست وليدة اللحظة، فالرغبة في نيل معقد دائم في مجلس الأمن لأفريقيا قديمة، بدأت مع إعلان سرت عام 1999، أعقبها اجتماع إيزولويني عام 2005، الذي اعتمده الاتحاد الأفريقي بالإجماع، ومثّل حينها موقف الأفارقة المشترك من إصلاح مجلس الأمن، مطالبين بمعقدين دائمين يكفلان حقوق وامتيازات العضوية الدائمة، بما في ذلك حقّ النقض.
من شأن الزيادة في أعداد المتمتّعين بحقّ الفيتو أن تؤثّر في مصالح الخماسي دائم العضوية، وربّما تعيق ما قد يتّخذونه من قرارات
الجديد في المسألة هو الدخول الأميركي في الخط، بعد إعلان سفيرة الولايات المتّحدة لدى الأمم المتّحدة، ليندا توماس غرينفيلد، الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، في مؤتمر نظّمه مركز الأبحاث لمجلس العلاقات الخارجية، دعم بلادها إنشاء مقعدين دائمين للدول الأفريقية، ومقعد غير دائم للدول الجزرية، "حان الوقت لأن يكون للقادة الأفارقة مقعد دائم في مجلس الأمن"، بعدما تبيّن أنّ "المقاعد المُنتخَبة لا تسمح للبلدان الأفريقية بالاستفادة من صوتها في عمل المجلس". بهذا القول تضفي الدبلوماسية الأميركية الطابع الرسمي على تصريح سابق للرئيس جو بايدن، في هامش القمّة الأميركية الأفريقية، في سبتمبر/ أيلول 2022 (راجع مقال الكاتب "أميركا وعودة المضطر نحو أفريقيا" في "العربي الجديد"، 2022/12/27).
هكذا تُحقِّق واشنطن السبق لأنّها أوّل عضو من الأعضاء الخمسة دائمي العضوية في مجلس الأمن يدعم علنا مطلب الأفارقة، في محاولة لتسجيل نقطة في وقت مُبكّر لصالحها، على حساب كلّ من روسيا والصين، وحتّى فرنسا، التي طالما قدّمت نفسها ناطقةً باسم أفريقيا في المحافل الدولية. كما أنّ الأمر خطوةٌ ذكية من الإدارة الأميركية لتدارك صدمة مارس/ آذار 2022، حين قرّر الأفارقة توجيه ضربة قوية للولايات المتّحدة، بامتناع 17 دولة أفريقية عن التصويت على إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا.
بات وِدُّ أفريقيا مطلوباً من الجميع، لذلك تؤيّد الصين وروسيا بدورهما منح أفريقيا مقاعدَ دائمة مع حقّ النقض في مجلس الأمن، رغم عدم إظهار ذلك علناً. فبكّين تدرك الدور المحوري لأفريقيا في الأمم المتحدة عام 1971، حين اعتمدت الهيئة قراراً تاريخياً سمح بقبول جمهورية الصين الشعبية، حينها تحدّث ماو تسي تونغ عن "الشعور بالامتنان للبلدان الأفريقية"، ناهيك عن أنّ المصلحة الفضلى للبلدين؛ أي الصين وروسيا، تكمن في الجلوس في اجتماعات مجلس الأمن إلى جانب أفريقيا متمتِّعةً بحقّ النقض.
ينذر غياب تحديد معايير اختيار المُرشّحين لمجلس الأمن بمعركة أفريقية جديدة لا تقلّ حدَّةً عن المعارك بسبب الصراعات الحدودية
تحول دون تحقيق هذا الطموح الأفريقي المشروع عقبات كثيرة، بعضها ذاتي مرتبط بأبناء القارة أنفسهم، وبعضها الآخر موضوعي متعلّق بالنظام العالمي من ناحية، وبالأعضاء في نادي حقّ الفيتو من ناحية أخرى. فمن شأن الزيادة في أعداد المتمتّعين بهذا الحقّ أن تؤثّر في مصالح الخماسي دائم العضوية، وربّما تعيق ما قد يتّخذونه من قرارات، ما يُرجِّح أن يسعوا خلف الكواليس إلى الحيلولة دون خسارة هذا الامتياز. كما أنّ فتح هذا الباب يستلزم النظر في طلبات دول من مناطق مختلفة في العالم، تعتبر أنّها صاحبة حقّ في الحصول على العضوية الدائمة (ألمانيا واليابان والهند والبرازيل...). أضف إلى ذلك أنّ ميثاق الأمم المتّحدة بدوره يُعقِّد المسألة، فإقرار تعديل في ميثاق الأمم المتحدة، حسب المادة 108، يتطلّب تأييداً من خمسة أعضاء دائمي العضوية، وأغلبية 2/3 من الدول الأعضاء في الجمعية العامة.
قارّياً، وعلى فرض تجاوز العوائق الموضوعية، تبقى مسألة الاختيار تحدّياً ذاتياً يواجه الأفارقة، إذ كيف السبيل إلى اختيار البلدان التي ستمثّل القارّة بصفتها دولاً دائمةَ العضوية عن أفريقيا في مجلس الأمن في غياب أيّ توافق في الآراء، فهناك دول أفريقية مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا ومصر والجزائر والمغرب، تتطلّع لشغل هذه المقاعد الدائمة المُستحدَثة؟ ... ينذر غياب تحديد معايير اختيار المُرشّحين بمعركة جديدة داخل القارة، لا تقلّ حدَّةً عن المعارك المتوقّدة حالياً بين الدول بسبب الصراعات الحدودية في مختلف الأقاليم الأفريقية.
يعلم الأفارقة قبل غيرهم الإخفاقات المتراكمة لمجلس الأمن في حلّ الأزمات أو إنهاء الصراعات الأفريقية رغم تركيبيته الحالية المُصغَّرة؛ خمسة أعضاء فقط، فكيف سيكون الأمر عند الزيادة في الأعضاء، إذ ستزداد معها بالضرورة الحسابات وتتضارب المصالح. لذلك يتوجّب على زعماء ونخب هذه القارة، التي يعدّها الاستراتيجيون خزّان الاقتصاد العالمي في المستقبل، المسارعة إلى إطلاق مشروع لإصلاح الذات أولاً، قبل أيّ تفكير بإصلاح الأمم المتّحدة. فنهضة وإقلاع أفريقيا لن تكون سوى بعقول وسواعد أبناء وبنات أفريقيا.
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.