أفكار بصوت عال
(1)
لو أن بابلو بيكاسو بقي حيّا إلى زماننا لاكتشف أن ما فعله القصف الألماني في مدينة جرنيكا الإسبانية الذي وثقه في لوحته الشهيرة لا يداني ما فعله العسكر الصهاينة في قطاع غزّة الذي يئن من وقع الكارثة الإنسانية التي تعرّض لها، إذ وصل تعداد الضحايا إلى أرقام مهولة.
وكان سلاح الطيران الألماني المساند للفاشيّة في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية في منتصف الثلاثينيات قد استهدف المدينة التي تعتبر المعقل الرئيسي لحركة المقاومة الجمهورية في إقليم الباسك، وأودت الضربات بحياة أكثر من 1650 شخصا بين قتيل وجريح، كما دمّرت ثلاثة أرباع المدينة التي لم تعد صالحة للسكن أو العمل، فيما كانت حصيلة الحرب الوحشية التي شنّتها إسرائيل على غزّة، حتى الساعة، استشهاد 15 ألفا و523 شخصا بين طفل وامرأة ورجل، وإصابة 41 ألفا و316 آخرين، وتدمير مئات المساكن والمدارس والمستشفيات على طول المدينة المنكوبة وعرضها.
حرب غزّة أمام عيون الفنّانين الذين سيوثقون لنا فصولها التراجيدية الوحشية التي لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا، قياسا الى فترتها التي لم تتجاوز الشهرين بعد.
(2)
إنه لأمر محيّر أن يتطوّع رئيس أكبر دولة عربية في طرح مقترحين مشبوهين، ولا نقول عنهما أكثر، بخصوص مستقبل غزّة، ومستقبل القضية الفلسطينية: الأول تهجير أهالي غزّة، وربما كل الفلسطينيين الى صحراء النقب، والثاني "إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وبضمان وجود قوات أوروبية أو أميركية فيها"، إلى جانب "دولة إسرائيل" المدجّجة بالأمن والأمان والسلاح الذري. وبعبارة أخرى، حشر الفلسطينيين في الزاوية الضيقة، "كانتون" صغير، يتعيّشون فيه على صدقات المحسنين، ويديرونه وينظمّون شؤونه بصلاحيات وإدارة على غرار "دولة محمود عبّاس"، أو ربما بأقل منها.
أسقطت حرب غزّة الرهان على "محور الممانعة" الذي صدّع رؤوسنا بشعارات "المقاومة" و"التحرير" و"وحدة الساحات"
ولافت أن يعلن رئيس الدولة المذكورة استعداده للقبول بهذه الصيغة، جاعلا من نفسه "ولي الأمر" الذي تجوز له الوصاية على الذين لا حول لهم ولا طول، وليتَه قرأ "التغريدة" التي أطلقها أحدهم على منصّة "اكس"، وفيها "لا فلسطين إلا فلسطين، دولة كاملة السيادة على كل التراب، بكل المواطنين في الداخل وفي الشتات"، وعسى أن تقطع هذه "التغريدة" قول كل خطيب.
(3)
ظهر أخيرا في الأدبيات الصهيونية مصطلح "بتر الأمل"، والمقصود "بتر الأمل لدى الفلسطينيين"، وصاحبه هو الشخص نفسه الذي نظّر قبل سنوات لخطّة حسم الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين"، عضو الكنيست عن حزب البيت اليهودي، ووزير الأمن ورئيس دائرة الاستيطان سابقا بتسلئيل سموتريتش، وتدعو إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وتكثيف حركة الاستيطان، وحلّ السلطة الفلسطينية، ودفع الفلسطينيين للهجرة إلى خارج إسرائيل، وصولا إلى تصفية القضية الفلسطينية وتحقيق الحلم الصهيوني بقيام "إسرائيل الكبرى". وقد قوبلت الخطّة في حينها بكثير من ردود الفعل الغاضبة، حتى داخل الكيان الصهيوني نفسه، لكنها استُعيدت في خضم المناقشات الدائرة بخصوص مستقبل غزّة.
ألم يحن الوقت أمام العرب للتلويح بوضع سلاح النفط في خدمة المعركة؟
وعلى النقيض مما تحاول أن توحي به "هرطقة" سموتريتش، أحيت غزّة الصامدة المحتسبة الأمل لدى الفلسطينيين والعرب في إمكانية تحرير أرض فلسطين المغتصبة، كما أسقطت كل خطط "الحسم"، وأوقفت مسيرة التطبيع، وقد ارتدّ شعار "بتر الأمل" على دعاته، إذ أشاعت حرب غزة حالة وعي على المظالم التي لحقت بالفلسطينيين، ودفعت بالكثير من الإسرائيليين أنفسهم الى إعادة التفكير في ما كانوا يعدّونه من المسلّمات التي لا تقبل المراجعة، والأيام القادمة حبلى بالمزيد.
(4)
أسقطت حرب غزّة الرهان على "محور الممانعة" الذي صدّع رؤوسنا بشعارات "المقاومة" و"التحرير" و"وحدة الساحات"، فعندما ضربت غزّة بثلاثة أضعاف قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، واحترقت، واستشهد آلاف الأطفال والنساء والرجال، ودمّرت مئات المساكن والمدارس والمستشفيات، وامتلأت الشاشات بالدم، نكص الممانعون عن وعودهم بذريعة "عدم توسيع الحرب"، باستثناء مناوشات صغيرة افتعلتها مليشيات تابعة لذرّ الرماد في العيون. وعندما حدث الهجوم البرّي، واشتدّ أوار الحرب واتّسعت، واستشهد آلاف آخرون، ودُمّرت مبانٍ أخرى، ظلّ الممانعون متمسّكين بفضيلة الانتظار، انتظار محو غزّة وإبادة أهلها. ومع ذلك، تلقت طهران التي وثقت هدنتها مع "الشيطان الأكبر" بدبلوماسية ناعمة، تلقّت كلمات الشكر والعرفان من قادة "حماس" على ما لم تقم به. وربما لهم العذر في تقديم الشكر، ونحن نلوم.
(5)
ثمة سؤال مشروع يطل برأسه: أين انتهت مهمّة اللجنة الوزارية التي تمثل 56 دولة عربية وإسلامية التي زارت بكين وموسكو وباريس ولندن وعواصم أخرى أيضا، من أجل غزّة، وما الذي توصلت إليه؟ وسؤال آخر في الصميم: ألم يحن الوقت أمام العرب للتلويح بوضع سلاح النفط في خدمة المعركة؟ وهي الخطوة التي طالبت بها أكثر من دولة عربية في مؤتمر القمّة العربية الإسلامية؟ تردنا الإجابة من كبير مستشاري وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة عاموس هوكشتاين، في "الفايننشال تايمز": "نحن واثقون من أن الدول العربية لن تستخدم النفط سلاحا".
اللهم.. هل بلغت.. اللهم فاشهد.