أكثر من ألمانيا واحدة
ينقل الفيلسوف الألماني، فالتر بنيامين، في واحد من تأملاته الفاتنة في الشخصية الألمانية عن فرنسي يصفه باللمّاح قوله: "نادراً ما يفهم الألماني نفسه، وإذا فهمها لن يقول ذلك، وإذا قالها لن يجعل نفسه مفهوماً". .. قد يصلح هذا الاقتباس مفتاحاً لفهم الموقف الألماني المستهجَن، المتطرّف في غطرسته، والعدواني تجاه استضافة قطر مونديال كرة القدم. وما يحيّر ويزيد من حدّة الاستغراب أن برلين نفسها كانت أكثر الدول الغربية إنصافاً لموقف الدوحة خلال حصارها، وهو ما هدّد علاقاتها مع بعض دول المنطقة وأسواقها، ناهيك عن علاقات الصداقة والشراكة المديدة بين البلدين التي لم تعرف مطبّات حقيقية، فهل كانت تصرّفات وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، الشخصية وأفعالها خلال الأسابيع القليلة الماضية السبب؟!
يردّ كثيرون، محقّين، الموقف الغربي، في عمومه، من استضافة قطر المونديال إلى التصوّرات النمطية، الاستعمارية، المسبقة تجاه الآخر أياً كان، وإلى ما تسمّى المركزية الأوروبية، وإلى ما يمكن اعتبارها مجازاً النرجسية الجريحة للغرب، ردّاً على من لا يُرى إلا تابعاً، فإذا به تحرّر وامتلك قراره، بل ونافس ونجح فيما يظنّ الغرب أنه وحده من يستطيعه ويتقنه. لكن مقاربات كهذه لا تكفي لتفسير الموقف الألماني الذي انفرد عن بقية المواقف الغربية بحدّته وتناقضاته، وربما ثمّة قُطْبة مخفية قد تفكّكه وتوضحه. والأمر يتعلق بتحوّلات تعصف بمسلّمات برلين التاريخية بعد الحرب على أوكرانيا، فألمانيا أكثر من تحفّظت وحرصت على عدم الانجرار وراء واشنطن ولندن في موقفها إزاء موسكو، ولا يُنسى المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيس الأميركي بايدن والمستشار الألماني شولتز في فبراير/ شباط الماضي، قبل أيام من بدء روسيا ما سمّتها العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا. آنذاك، تجنّب المستشار الرد على أسئلة الصحافيين عن خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، وهو أكبر مشروع لنقل الطاقة من الأراضي الروسية إلى أوروبا، وكانت واشنطن تضغط على برلين لتجميد العمل فيه، لكن شولتز كان متردّداً، ورفض إعطاء أي وعد في هذا الخصوص لمعاقبة روسيا والضغط عليها ودفعها إلى التفكير مراراً قبل أي غزو محتمل في حينه لأوكرانيا.
كانت الحرب الأوكرانية الحدّ الفاصل بين ألمانيتين، ألمانيا ميركل وألمانيا ما بعدها، وهي التي دفعت شولتز إلى وقف العمل تماماً بخط نقل الغاز نورد ستريم، والأكثر خطورة زيادة ميزانية التسلح (نحو مائة مليار دولار سنويًا) والانخراط من دون تحفظ في أكبر أزمات الغرب في القرن الحادي والعشرين. خسرت برلين شراكة مربحة مع موسكو في مجال الطاقة، وأُجبرت على خطط تسلّح ضخمة. وفي الحالين، كانت تبتعد عن حقبة ميركل المزدهرة، الأكثر نأياً من بين الأوروبيين عن الفلك الأميركي من دون الاصطدام مع واشنطن. على أن هذه التحوّلات لم تكن تعبّر عن وحدة الألمان، وربما لم تكن تعبّر أيضاً عن مصالحهم، لكنها، وقد حدثت جرّاء عوامل خارجية لا نتاج تطوّرات داخلية، أعادت إلى الأذهان التناقضات في الشخصية الألمانية التي تُحسم غالباً بعنف بالغ إنْ لم يكن متطرّفاً. وما كشفته الحرب الأوكرانية أن برلين لم تعد قادرةً على فهم نفسها ودورها في العالم وحدوده وإكراهاته، وحتى لو فهمته فإنها غير قادرة على التعبير والدفاع عنه بشكل مفهوم. وموقف الوزيرة فيزر مثال ساطع، فقد بدأت بموقف فج ومتغطرس من استضافة الدوحة المونديال، وقالت إنه كان من الأفضل عدم منح شرف تنظيم هذه البطولات "لدولٍ كهذه"، وتقصد قطر التي جهلت في تصريحاتها، قطر نفسها التي ترتبط بلادها بعلاقات متميزة معها، والدولة التي ناصرتها برلين علناً قبل سنوات.
عادت الوزيرة بعد ذلك إلى التراجع جزئياً والتخفيف من خطابها الاستعلائي غير المبرّر واللامفهوم، وزارت الدوحة وأعلنت دعمها الإصلاحات فيها، لكنها فاجأت الجميع بتصرّف وُصف بالطفولي وغير اللائق دبلوماسياً من وزيرة تمثل بلداً كبيراً، حين تحايلت بدخولها استاد خليفة بمعطف قبل أن تخلعه وتُظهر شارة المثليين على ذراعها. هل كانت تعبّر عن نفسها أن تسعى بحكم منصبها إلى ابتزاز الدوحة فيما يتعلق بالطاقة، والضغط على قطر بأسلوب المشاغبة الذي لا يليق بالدول لدفعها لتزويد بلادها بالغاز وبشروطها؟
ما يعرفه كثيرون في المنطقة أن قطر تُحيّد قطاع الغاز عن السياسة تماماً، وعندما كانت محاصرة لم تقطع إمدادات الغاز إلى دولة في الجوار كانت شريكةً في الحصار، وأخيرا وقّعت صفقةً لتصدير الغاز المُسال إلى ألمانيا مدة 15 عاماً، ومعلوم أن صفقات الغاز الكبرى تستغرق وقتاً، وأن الدوحة بهذه الصفقة تؤكد أنها لا تُخلّ بشراكاتها طويلة المدى مع الدول، حتى لو شاب العلاقات توتّر قد يكون طارئاً، وهذا كله لا يفسّر تصرفات الوزيرة الألمانية التي حملت على قطر.
لا وصف لهذه العدائية أفضل من تعليقات وزير الخارجية الألماني السابق، زيغمار غابرييل، الذي وصف مواقف بلاده بالمتغطرسة والمثيرة للاشمئزاز.
ثمّة أكثر من ألمانيا هنا.