أما آن للكيماوي أن يستشيط

26 ديسمبر 2024

رغدة في حلب في 2017 بعد إحكام النظام السوري سيطرته على المدينة (مواقع التواصل الاجتماعي)

+ الخط -

العنوان أعلاه مُقتبس من رسالة شهيرة وجهتها الفنانة السورية رغدة إلى رئيسها المخلوع بشّار الأسد، عام 2014. وبث التلفزيون السوري الرسالة التي كتبتها الفنانة بينما هي مقيمة في القاهرة، بعيدةً آلاف الكيلومترات عن مدن بلادها التي كانت تتعرّض بالفعل للقصف بالأسلحة الكيماوية (مجزرة الغوطة)، لكن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة لها، فعلى نظام رئيسها أن يعلّق المشانق ويقصف كل منطقة فيها "إرهابي". عليه أن يحرق الأرض بمن عليها، وهم مدنيون، كما قالت حرفياً، فعلى سورية أن تتعمّد بالدم كي تجتاز أزمتها، فاقتلوا واسحلوا، ولا ترحموا أحداً قدّم طعاماً أو ماء أو ضماداً أو مأوى أو سلاحاً لهؤلاء، وعلى الكيماوي "أن يستشيط".
ولا أعرف ما إذا كانت الفنانة، وهي شاعرة أيضاً بالمناسبة، تعرف معنى "يستشيط" عندما كتبتها، لكنها من "شاط"، أي تجاوَز الحد، وهذا من ضمن عدّة معان لها. وبهذا كان إنشاؤها مُحكماً ويعرف مغازيه ومعانيه، ما يقطع الطريق عليها بأثر رجعي، في أنها لم تكن تقصد ربما عملاً بمبدأ أن البقر تشابه علينا.
كانت رسالتها تحريضية بامتياز، بل تقريعية لنظام رئيسها الحبيب، فلماذا هذه الرخاوة في التعامل مع المعارضين؟ ولماذا على رئيسها أن يخيّب آمالها مرّتين: واحدة بتسامحه مع الخارجين عليه والطبطبة على أكتافهم بدلاً من إبادتهم وحواضنهم الشعبية، وأخرى بفراره من سورية، وهي (رغدة) من هدّدته بتصنيفه خائناً لو فعلها وتنحى؟
فعل بشّار الاثنتين معاً وما هو أكثر. لقد ضرب بلاده بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، وقتل عدداً غير معلوم منذ ثار عليه الشعب السوري، وهو غير شعب رغدة حُكماً، ويتراوح ما بين نصف مليون إلى نحو مليون قتيل، كما شرّد نحو نصف الشعب السوري، نزوحاً ولجوءاً، إضافة إلى عشرات الآلاف ممن أُخفوا قسراً وقضوا في أقبية السجون، وما تسرّب من قصص بعض هؤلاء يكاد يكون غير مسبوق في تاريخ القمع والإفناء عبر التاريخ كله، إذا استثنينا الهولوكست.
سألتها لميس الحديدي، في 2016، في برنامج "هنا العاصمة"، عن رئيسها بشّار، فنفت أن تكون قد استفادت أي شيء منه، ولا أظنها جانبت الصواب، فهي لم تتكسّب من النظام، بل تطوّعت بالوقوف معه بل إلى يمينه، وكان بإمكانها أن تتمتّع بالضيافة المصرية بالغة الكرم مع نجمة سينمائية مثلها، وأن تركن إلى الصمت أو تكتب ذكرياتها مع أحمد زكي الذي تمتّعت بحمايته والتلطي خلف موهبته وشهرته، لكنها لم تفعل ذلك، بل واصلت اندفاعتها العدوانية تجاه شعبها بلا هوادة، ما يجعل المرء في حيرة من أمره في تفسير حالتها الشاذّة التي تستعصي على التحليل، ما لم نلج مفهوم الشرّ وتحوّلاته وتجلياته عبر التاريخ. وفي هذا نلجأ إلى الفلسفة لا علم النفس، ما يؤكد تعقيد حالات بعض مؤيدي الأسد، وقصور أدوات التحليل الراهنة عن فهمهم أو وضعهم على أريكة فرويد بأدوات ومقاربات جديدة كلياً.
أنت تستطيع فهم حالة فنان كبير مثل دريد لحّام وتقلباته وانقلابه على رئيسه بشّار، رغم أنه كان مستفيداً كبيراً من نظام آل الأسد (الأب والابن)، وصولاً إلى فهم حالة باسم ياخور مثلاً، لكنك تقف حائراً على عتبة رغدة التي لم تُقِم في بلادها فعلياً منذ مطلع الثمانينيات، بل في القاهرة، والتي حظيت بحياة رغِدة فعلاً مالاً وشهرة وطبقةً، ما كان يُفترض أن يذهب بها وضعها هذا إلى منطقة أخرى، مثل زميلتها سوزان نجم الدين، حيث على الفنان أن يكون مع الريح وحيث هبّت، خاصة أن كل ما يحوزه من رأسمال هو جمال الخِلقة وحسب. لكن ثمّة ما هو مختلف في حالة رغدة، أشبه بحالة كاليغولا، حيث الغطرسة يخالطها خَبَلٌ وفائضُ جنونٍ وساديةٍ لا يجدي معها فهم ولا تفهم بل ردع بالغ الخشونة.
حسناً فعلت رغدة، حين صمتت، حين سارع كثير من زملائها من مؤيدي رئيسها لتبرير انقلابهم عليه، ولكنه ليس حسناً في أي حال أن يصمت الضحايا أو يتسامحوا دائماً، فما كل الرؤوس سواء، إذ بمقدور أي سوريٍّ الآن رفع دعوى قضائية على رغدة لمحاسبتها على جرائمها بأثر رجعي، وهو ما تبيحه القوانين الوطنية والدولية.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.