أميركا في إحدى لحظات تجلّي الفوضى
عام 1956. العدوان الثلاثي على مصر. ثلاثة معتدين: إسرائيل، الناشئة، وبريطانيا وفرنسا، الاستعماريتان الآخذتان بالانطفاء. الحرب العالمية الثانية انتهت منذ عقد. والحرب الباردة في طريقها إلى التبلور، بين "جبّاريْن": الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وهذا العدوان هو امتحانٌ للجبّار الأول، أميركا. على المستعمِرين السابقين أن يفهموا أنهم لا يستطيعون خوض حربٍ من دون قيادتهم لها. ونظراً إلى أنها "جبّارة" في أولى طلعاتها العالمية، على أميركا أن توقف هذه الحرب فوراً. وهذا ما يحصل، وما يشير، في الوقت ذاته، إلى أنّ بريطانيا وفرنسا في سبيلهما إلى التراجع أمام أميركا التي أنقذتهما من الخراب والإفلاس، إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، بفضل مشروع مارشال السخي.
انهار الاتحاد السوفييتي. وأميركا، وبعد رحلتها الإمبريالية القصيرة، لا تستطيع أن تنأى بنفسها عن الفوضى العالمية الناجمة عنه، بعد عقودٍ من الحرب الباردة ذات القوانين والأعراف التي أدارت بها العالم بالاشتراك مع "العملاق" السوفييتي، فطموحها بقيادة العالم بمفردها لم ينجح. الصين صاعدة، وروسيا (وريثة السوفييت) "صامدة" بغزوها أوكرانيا. وتحالفات الاثنين تبدو وثيقة مع دول أخرى، عكس أميركا التي يتأرجح أصدقاؤها بينها وبين هذا "المحور" الجديد. والعالم يتحرّك، يفاجئ، يثير البلبلة. وأولوية أميركا بمواجهة الصين تدفعها إلى الانسحاب، أو التذبذب، أو الإخلال بالالتزامات في مناطقها القديمة... فتنسحب، أو تراوغ، أو ترقِّع... معتقدةً أنها بذلك ستتغلب على منافسها الأعظم.
العلامة الأبرز على هذه الانسحابات في الشرق الأوسط: تراجع أوباما عام 2013 عن "خط أحمر" وجّهه إلى بشّار الأسد في حال استخدم "الكيماوي" ضد أهله. قبل ذلك، انسحابه الخائب من العراق (بقي ألفان وخمسمائة جندي هناك). وبعده، كان انسحابه من أفغانستان. فاعتمدت أميركا سياسة "القيادة من الخلف"، أي إدارة حلفاء أو مجموعات ودعمها (ليبيا، الأكراد...). ولكنها فشلت، وبدت عديمة القدرة على القيادة، خططها وتوجّهاتها غير مفهومة تماماً... حتى لقّبت في الآونة الأخيرة بدولة "منعدمة القيادة". لم تعُد أميركا تقود العالم، أصابتها فوضاه في الصميم.
الصين صاعدة، وروسيا (وريثة السوفييت) "صامدة" بغزوها أوكرانيا
خذْ مواقفها من الحرب على غزّة. في بدايتها، كاد رئيسُها ووزير خارجيتها أن يبكيا في أحضان نتنياهو، لشدة تأثرهما بضربة 7 أكتوبر/ تشرين الأول. نشر الأميركيون حاملات الطائرات، أرسلوا الذخيرة، ألقوا "الفيتو" لصالحها في مجلس الأمن... إلى ما هنالك من أشكال التضامن مع حليفتهم التاريخية. وسرعان ما بدا ارتباكها في التعامل مع هذه الحرب، بعد هذه البداية الحارّة، لسانها أولا. بخجلٍ وتهذيب، أخذ رئيسها ووزير خارجيتها يطالبان نتنياهو بلفتات إنسانية. تكرّرت هذه الكلمات، ولم تفلح. وكانت مسألة اجتياح رفح، واشتراطها عدم النيْل من المدنيين اللاجئين إليها. ثم تصاعدت اللهجة، فخطوات عملية، من نوع زيارة بني غانتس لأميركا، وهو المعارض لنتنياهو، ولقاءاته مع مسؤولين كبار، منهم نائبة الرئيس كامالا هاريس، فمزيد من التصريحات المؤنّبة، وخطوات عملية، مثل عقوبات على بعض المستوطنين وعلى مراكزهم...
وكلمات جديدة يدلي بها جو بايدن، هي الأولى من نوعها: في خطاب الاتحاد السنوي أولاً، كان عرضاً مفصّلا للمآسي الإنسانية لأهل غزّة، ومتعاطفا معهم، وخلاصة أن المساعدات الإنسانية لا يمكن التعامل معها كمسألة ثانوية، أو عملة تبادل. وبعد يومين، مع القناة التلفزيونية (أم.أس.إن.بي.سي)، نصح بايدن نتنياهو بأن لا يرتكب الخطأ الأميركي نفسه في العراق وأفغانستان. حذّره من مواصلة هجماته وحصاره لغزّة، وطالبه صراحة "بوقف إطلاق النار". ورفض، في الوقت عينه، وضع "خطوطٍ حمراء" بشأن توريد السلاح إلى إسرائيل.
وبعيْد مجزرة الطحين المروّعة، التي راح ضحيّتها أكثر من مائة غزّي جائع، معطوفة على إغلاق معابر المساعدات، أو التشديد والتضييق على القليل منها، وتظاهرات اليمين المتطرّف لمنع دخول القليل منها، كان مشروع بناء ميناء، يعالج التجويع، وربما يحمل معه أيضا، في المستقبل كما أوحي، موادّ بناء ولوجستيات على أنواعها. ثم "الزلزال" الذي أحدثه تشوك شومر، أقوى شخصية يهودية أميركية، ورئيس الغالبية في البرلمان الأميركي. انتقد نتنياهو بشدّة، وانشغاله بزيادة أعداد القتلى المدنيين في غزّة، ما "أفقد إسرائيل احترام العالم لها". والأهم أنه رأى في الدولتين اليهودية والفلسطينية الحلّ الدائم. لاقى تصريح شومر تأييدا من النواب والبرلمانيين الديمقراطيين، بدا كأنه علامة البدء على "جدّية" اميركا بإسقاط نتنياهو.
ما هو بالضبط الذي دفع أميركا إلى "تعديل" موقفها من إسرائيل، تجاوزت فيه تاريخ علاقتها مع إسرائيل، وقد وُصِفت يوماً بـ"العضوية"؟
الميناء فكرة سريعة. بُنيت على لوجستيّات متوفرة. مقاولو الكوارث والأعمال الخيرية، أفراد من الجيش الأميركي ("لن يطأوا أرض غزّة...")، سفن كبيرة وأخرى أصغر منها، واكتمال البناء خلال شهرين، وبدء وصول أغذية يُفترض أن تسدّ الجوع الذي ينهش أهل غزّة. ومشكلة هذا الميناء أنه ليس معروفاً بعد كيفية تشغليه. من سيربط السفن باليابسة قبل بناء الرصيف؟ من سيحرُس وحدات الهندسة الأميركية؟ من سيوزّع الوحدات الغذائية؟ من سيقوم بحملة تمويل بناء المرفأ وتشغيله؟ من سيفرغ الحمولات؟ من سيوزّعها؟ أو يحرسها؟ وأين ستُخزّن؟... إلخ. كلها أسئلة مرهونة بالمستقبل الذي ينتظر غزّة. بعد نسف "أونروا" وشلّها، بعد رفض العشائر استلام الوظيفة، بعد تشكيل محمود عبّاس الحكومة الجديدة التي ترفضها حركة حماس وحلفاؤها.
والردّ الإسرائيلي على تبدّل الموقف الأميركي: أن الرأي العام الإسرائيلي يدعم "انتصاراً كاملاً على حماس"، يرفض أي إملاءاتٍ دوليةٍ تهدف إلى إقامة دولة إرهابية، يرفض "عودة السلطة الفلسطينية إلى غزّة"، وان إسرائيل ليست "جمهورية موز"، أي أنها ديمقراطية، و"الغالبية الإسرائيلية تريد استمرار الحرب". وهذه عيّنة من أقوال صدرت عن إسرائيل، خلاصتها أنها "حريصةٌ على سيادتها الوطنية" (بمن تذكّر "السيادة الوطنية"؟). أي أن الموقف الأميركي ليس مطابقاً لمواقف إسرائيل كما عهد في الماضي... فهل يكون الخلاف المقبل بين الاثنين وقف توريد السلاح الأميركي إلى إسرائيل، أو التخفيف من نوعِه أو كمّياته؟
الإجابة عن السؤال تشبه فوضى القيادة العالمية. اعتبارات شخصية، شغف بايدن بإسرائيل، منذ أولى أيامه الباكرة. قوله إنه لن يضع "خطّاً أحمر على تسليح إسرائيل"، لن يوقف تسليمها "القبّة الحديدية" التي تحميها. أيضا: خشية معلنة لدى الأميركيين من أن يؤدّي وقف التسليح إلى زيادة عزلة نتنياهو، فيفيض إجرامه على غزّة، وتتويجه "بطلا قوميا" لدى الإسرائيليين. علما أنه يمكن لإسرائيل التسلّح من مصادر أخرى، وهذه إشارة صغيرة إلى تلك الفوضى... ثم ترجيحات "المصادر" الأميركية أن أميركا قد تقطع فعلا السلاح عن إسرائيل إذا لم تتمكّن من زيادة حجم المساعدات إلى أهل غزّة.
هل يكون الخلاف المقبل بين الولايات المتحدة وإسرائيل وقف توريد السلاح الأميركي إلى إسرائيل، أو التخفيف من نوعِه أو كمّياته؟
التشكيك الفلسطيني بهذه الوجهة مشروع: وزارة الخارجية الفلسطينية رأت في بناء ميناء غزّة "تطبيقا لخطة إسرائيل بتكريس الاحتلال والفصل بين الضفة الغربية والقطاع"، وتوجّست من "إمكانات تهجير أهالي القطاع والمساهمة في خطط إسرائيل في التطهير العرقي للفلسطينيين". وقد اعتبر رئيس المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، الأقرب إلى "حماس"، أن بناء المرفأ "تهرّب من المسؤولية القانونية والأخلاقية عن الحصار على غزّة". وأضاف: "لو أرادت الولايات المتحدة تستطيع إجبار إسرائيل على فتح كل المعابر خلال 24 ساعة".
الآن، الذي دفع أميركا إلى "تعديل" موقفها من إسرائيل، تجاوزت فيه تاريخ علاقتها مع إسرائيل، وقد وصِفت يوما بـ"العضوية". ما هو بالضبط؟ الحسابات الانتخابية طبعاً، بعدما برز الصوت العربي معاقباً بقوة بايدن في انتخابات "الثلاثاء الأكبر". والمناخ الذي تعرفه أميركا، بالشرائح التي لم تكلّ ولم تملّ من رفع صوت غزّة، ومنها يهودية. أيضاً، استجابة لكبار الموظفين والنواب والإداريين الأميركيين الذين تعاطوا بحساسيةٍ بالغةٍ مع المجازر الإسرائيلية. كذلك: الجو العام الشعبي، الغربي والعربي، الإسلامي، الأسود، الأقلياتي... الذي وضع القيم الغربية الحديثة والإنسانية في الحضيض. والوجه الأسود لأميركا، الداعمة لفظائع إسرائيل.
كل هذه المعْمعة هل كان لها أن تسود لو كانت أميركا في عزّها؟ لو لم تكن فقدت رؤيتها الاستراتيجية نتيجة اهتزاز أوهامها بشأن قيادة العالم بمفردها بعد نهاية الحرب الباردة؟ لو لم تكن هذه المرحلة هي بطبيعتها متقلبة، رجراجة، غير مفهومة دائماً، خطرة عليها... وولّادة فوضى قد تشهد غزّة أوجها؟