11 ابريل 2024
أميركا في شرق الفرات
تثير السياسة الأميركية فضول المراقبين لجهة محاولة تفسير أدوارها الفعليّة داخل سورية، تحديداً شرق الفرات، ذلك أنه بالكاد يمكن رؤية رأس جبل الجليد في ما خصّ سياسة الولايات المتحدة واستراتيجيتها الحالية، والمتمثّلة بدورها الطليعي في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) اتكاءً على حليفتها قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ليبقى السؤال العالق: هل هناك إشارات على رغبة أميركا البقاء في المنطقة شرق الفرات والمتاخمة للحدود السورية - التركية، والسورية - العراقية في المرحلة التالية للإجهاز على تنظيم داعش؟ أي هل يمكن الحديث عن النقلة الثانية للاستراتيجية الأميركية، وما هي الأكلاف التي تنطوي عليها مسألة بقاء أميركا، وتلك المتعلقة بانسحابها؟
يغلب على الظن أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق الجزء الرئيسي من استراتيجيتها العلنيّة المتمثّلة بدحر "داعش" بأقل الخسائر البشرية في صفوف عديد قواتها، والتي تكاد تلامس الصفر قتيلاً أميركياً، وبكلفةٍ ماليةٍ زهيدة قياساً بخسائرها الباهظة في العراق وأفغانستان. إلى ذلك، نجحت في امتصاص الغضب التركي على تحالف الولايات المتحدة مع غريمها الكردي (وحدات حماية الشعب)، عبر إشراك مقاتلين عرب محليين في عديد القوات التي تأسست عليها (قسد)، وكان للأميركان دورٌ بالغ الأهمية في تغيير بنيتها التنظيمية من وحدات حماية الشعب، ذات الطابع الكردي، لتصبح أشبه بقوات وطنية متعدّدة العناصر والقوميات.
تخشى قوات سورية الديمقراطية، ضمناً، القيادات العسكرية الكردية، انفضاض الدور الأميركي في المنطقة، وجلاء قواتها ومستشاريها وغرف عملياتها ونقل مرابض طيرانها بُعيد هزيمة
"داعش"، فالخشية تنطوي على مخاوف واقعية تتمثّل بإمكانية صدامٍ عسكري في اتجاهين: صدام عسكري بين "قسد" وقوات النظام السوري والمليشيات التابعة لها، وهذا مكلف لـ "قسد" نتيجة اضطلاع الروس بالدور الرئيسي القائم على تمكين النظام من بسط سيطرته على كل سورية، وبالتالي لا طاقة للقوات المذكورة من مجابهة الروس بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بينما يُخشى من صدام ثانٍ متوقّع قد يحصل مع تركيا التي سبق أن لوّحت بإمكانية شنّ هجمات عبر سلاحي الطيران والمدفعية على مواقع تابعة لوحدات حماية الشعب. وفي حال تم الرد على مصادر النيران التركية، وفي غياب الأميركان، قد يؤدي الأمر إلى اندلاع مواجهاتٍ لا تحمد عقباها، تكون فيها الغلبة للجانب التركي، ما يجعل تمسّك "قسد" بتلابيب تحالفها والولايات المتحدة أمراً مفهوماً، وواقعياً.
في حين، وفي المقابل، يكاد يُفهم من الخطوط العريضة لسياستها في سورية أن الولايات المتحدة تبحث عن توسيع حزام تحالفاتها، والاحتفاظ في الوقت نفسه بما يضمن لها ولحلفائها المحليين مقاعد متقدّمة في جولات المفاوضات بين النظام وخصومه، وبالتالي قد تسعى أميركا إلى أن لا تمنح معظم مقاعد التفاوض للروس والإيرانيين، وفرض شروطهما التي قد تودي بسورية كلياً في أحضان إحدى هاتين القوتين النافذتين أو إحداهما، وفي هذا ضرر بالغ على الوجود الأميركي في المنطقة برمتها.
بيد أن نقطة ضعف الموقف الأميركي شرق الفرات متصلةٌ بعدم توفر دور للمعارضة المسلحة التي سبق أن اجتثتها "داعش" شرق الفرات، وإن كانت المعارضة قد أبدت استعدادها المشاركة في معركة الرقة، من دون جدية، لتبرز أصوات تعلن عن رغبة المعارضة الاشتراك في حملة تحرير دير الزور عبر قوات موازية لـ "قسد"، غير أنه، وفي معزل عن جدية هذه الأصوات، يمكن القول إنها تأخرت في طرح هذا الاقتراح، جرّاء تسارع التسابق بين الروس
والأميركان لأجل السيطرة على المحافظة شاسعة المساحة، علاوةً على عدم امتلاك أميركا ترف تضييع الوقت أمام تقدّم النظام والروس على الأرض. وعليه، قد تتمكّن أميركا من تلافي نقطة الضعف هذه، عبر إشراك المعارضة في إدارة المناطق العربية شرق الفرات، ما يقلّل من مخاوف تركيا، ويخفّض من مخاوف المعارضة التي تخشى التهميش.
نظرياً، قد تبقى الولايات المتحدة في المنطقة الواقعة شرق الفرات، فالغاية من البقاء قد تتحوّل من ملاحقة "داعش" إلى غاية استراتيجية متمثلة بضمان حفظ الحدود الشرقية لسورية من التمدّد المذهبي الذي تسعى إليه إيران، الطامحة إلى التوغّل داخل العمق السوري، كما قد يكون لبقاء الأميركان دورٌ في منع إعادة إنتاج الجماعات الإسلامية الراديكالية نفسها مجدداً في منطقةٍ بات نسيجها الاجتماعي هشّاً وقابلاً لعمليات إعادة التدوير، يضاف إلى ذلك الخشية من اندلاع مواجهاتٍ بين الإثنيات أو بين المسلحين الذين رعتهم أميركا نفسها، ما يعني أن غيابها عن المشهد سيسهّل على النظام والروس وإيران قضم هذه المناطق بسهولة.
قصارى القول، لم تحدّد أميركا أمد بقاء قواتها شرق الفرات، ما يجعل مسألتي بقائها أو رحيلها مفتوحتين على الاحتمالات المتراوحة بين البقاء والاستثمار استراتيجياً وامتصاص المنغّصات التي قد تظهر لاحقاً كضريبة للوجود في منطقة مليئة بالتناقضات، وبين الرحيل وترك المشكلات التي قد تنجم عن الفراغ الذي قد يملأه خصومها على كثرتهم، وإذا كان لا بد من تدبّر وتفكير مليّ في ما سيحصل في الحالتين، تبقى مسألة بقاء الأميركان شرق الفرات في المدة التي تلي الإجهاز على "داعش" أقرب إلى المنطق والتصديق.
يغلب على الظن أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق الجزء الرئيسي من استراتيجيتها العلنيّة المتمثّلة بدحر "داعش" بأقل الخسائر البشرية في صفوف عديد قواتها، والتي تكاد تلامس الصفر قتيلاً أميركياً، وبكلفةٍ ماليةٍ زهيدة قياساً بخسائرها الباهظة في العراق وأفغانستان. إلى ذلك، نجحت في امتصاص الغضب التركي على تحالف الولايات المتحدة مع غريمها الكردي (وحدات حماية الشعب)، عبر إشراك مقاتلين عرب محليين في عديد القوات التي تأسست عليها (قسد)، وكان للأميركان دورٌ بالغ الأهمية في تغيير بنيتها التنظيمية من وحدات حماية الشعب، ذات الطابع الكردي، لتصبح أشبه بقوات وطنية متعدّدة العناصر والقوميات.
تخشى قوات سورية الديمقراطية، ضمناً، القيادات العسكرية الكردية، انفضاض الدور الأميركي في المنطقة، وجلاء قواتها ومستشاريها وغرف عملياتها ونقل مرابض طيرانها بُعيد هزيمة
في حين، وفي المقابل، يكاد يُفهم من الخطوط العريضة لسياستها في سورية أن الولايات المتحدة تبحث عن توسيع حزام تحالفاتها، والاحتفاظ في الوقت نفسه بما يضمن لها ولحلفائها المحليين مقاعد متقدّمة في جولات المفاوضات بين النظام وخصومه، وبالتالي قد تسعى أميركا إلى أن لا تمنح معظم مقاعد التفاوض للروس والإيرانيين، وفرض شروطهما التي قد تودي بسورية كلياً في أحضان إحدى هاتين القوتين النافذتين أو إحداهما، وفي هذا ضرر بالغ على الوجود الأميركي في المنطقة برمتها.
بيد أن نقطة ضعف الموقف الأميركي شرق الفرات متصلةٌ بعدم توفر دور للمعارضة المسلحة التي سبق أن اجتثتها "داعش" شرق الفرات، وإن كانت المعارضة قد أبدت استعدادها المشاركة في معركة الرقة، من دون جدية، لتبرز أصوات تعلن عن رغبة المعارضة الاشتراك في حملة تحرير دير الزور عبر قوات موازية لـ "قسد"، غير أنه، وفي معزل عن جدية هذه الأصوات، يمكن القول إنها تأخرت في طرح هذا الاقتراح، جرّاء تسارع التسابق بين الروس
نظرياً، قد تبقى الولايات المتحدة في المنطقة الواقعة شرق الفرات، فالغاية من البقاء قد تتحوّل من ملاحقة "داعش" إلى غاية استراتيجية متمثلة بضمان حفظ الحدود الشرقية لسورية من التمدّد المذهبي الذي تسعى إليه إيران، الطامحة إلى التوغّل داخل العمق السوري، كما قد يكون لبقاء الأميركان دورٌ في منع إعادة إنتاج الجماعات الإسلامية الراديكالية نفسها مجدداً في منطقةٍ بات نسيجها الاجتماعي هشّاً وقابلاً لعمليات إعادة التدوير، يضاف إلى ذلك الخشية من اندلاع مواجهاتٍ بين الإثنيات أو بين المسلحين الذين رعتهم أميركا نفسها، ما يعني أن غيابها عن المشهد سيسهّل على النظام والروس وإيران قضم هذه المناطق بسهولة.
قصارى القول، لم تحدّد أميركا أمد بقاء قواتها شرق الفرات، ما يجعل مسألتي بقائها أو رحيلها مفتوحتين على الاحتمالات المتراوحة بين البقاء والاستثمار استراتيجياً وامتصاص المنغّصات التي قد تظهر لاحقاً كضريبة للوجود في منطقة مليئة بالتناقضات، وبين الرحيل وترك المشكلات التي قد تنجم عن الفراغ الذي قد يملأه خصومها على كثرتهم، وإذا كان لا بد من تدبّر وتفكير مليّ في ما سيحصل في الحالتين، تبقى مسألة بقاء الأميركان شرق الفرات في المدة التي تلي الإجهاز على "داعش" أقرب إلى المنطق والتصديق.
دلالات
مقالات أخرى
19 فبراير 2023
10 ابريل 2022
17 فبراير 2022