أن تقرأ "فرنكشتاين تونس"
أن تقرأ كتاب "فرنكشتاين تونس" (دار الكتاب، تونس، 2023)، بعد ساعاتٍ من مصادرته في معرض تونس الدولي للكتاب، يعني أنك تُسخّف السلطة هناك، وتهزأ من حماقتها. أن تقرأ هذا الكتاب بعد غلق جناح دار نشرِه التونسية في المعرض، وتتضامن معها زميلاتٌ لها، فإنك تُشهر احتقارَك منظومة الحكم هناك التي ترتعش من كتاب. وأن تقرأ، وأنتَ على ضفاف الخليج، الكتابَ الصادر هناك على ضفّة المتوسّط، لصاحبه الروائي كمال الرياحي المقيم في كندا، فإنك في هذا لا تُعلن فقط مناصرَتك حرية القول والسخرية والضحك، وإنما أيضا تُشفِق على المخّ الحاكم في تونس، لفرط ركاكته. وأن يبدأ لتٌّ وعجنٌ هناك إن إجراءً إداريا تنظيميّا وراء منع عرض الكتاب الذي لم يُصادَر، بحسب مسؤولين عن المعرض، قالوا هذا بعد فضيحتهم، يقيم الغباءُ بين ظهرانيهم، فهذا يأخُذُك إلى الجهر بإعجابك بكل سطرٍ كتبه كمال الرياحي عن قيس سعيّد، في الكتاب الذي كنتَ صادفتَ بعض مقالاتِه في مواقع وصحفٍ عربية. ولمّا كان الرياحي روائيا، ومشتغلا بالأدب وفن السرد، لا رجلَ سياسة وصحافة، فإن عُدّته في الذي يكتبه عن سعيّد (وغيرِه) الإيحاءُ والتهكّم وامتلاء الفكرة بالجوهري البعيد، لا العارض العابر. ولو نَحَتْ مقالات الكتاب (عنوانه الفرعي الداخلي "تأمّلات في الشأن السياسي التونسي في عهد قيس سعيّد) إلى التعليق السياسي المحض، من غير النوع الذي يتوجّه إلى الذائقة قبل الذهن، إلى رحابة المعاني والإحالات، لا إلى ضيق الحادثة السياسية العابرة، لو أنه هكذا، لما شعَرت السلطة في تونس بأن زهوَها بنفسها انخدش وتقيّح. أظنّها لم تكن لتغضَب وترتبك وهي تناور بين جَزعها من الكتاب في معرضٍ ومحاولتها لملمة فضيحتها التي دوّت وذاعت.
الكتاب مزدحمٌ بصور قلمية لقيس سعيّد، بناها صاحب "المشرط" استيحاءً من وقائع كان فيها رئيس تونس يهجو نفسَه بنفسه. عرفناها تلك الوقائع، قبل انقلاب 25 جويليه (يسمّيه الرياحي انقلابا) وبعدَه. ومزدحمٌ بآراء صاحبه في المجتمع التونسي نفسه، ونخبه وأحزابه ومثقفيه. يتأمّل الروائي في هذه التمثيلات، مسلّحا بما طالعه من نصوص عالية في آداب رفيعة عالمية. نعرفه نحن قرّاءه بما يُعرّف به نفسه عرَضا، إنه من الذين "يتموقعون على أرضٍ فكريةٍ أبعد عن الإسلام السياسي من الكواكب"، غير أنه يسأل: "هل ستبقى النخبة صامتةً بسبب الحرج الذي وقعت فيه عندما يصبح الدفاع عن الديمقراطية يصبّ خراجُه في صالح أحزاب الإسلام السياسي". وذلك بعد أن يسأل: هل سبق لتونس أن احتكر رئيسٌ من رؤسائها كل السلطة بهذا الوضوح؟ والراجح أن كاتب رواية "الغوريللا" أصاب لمّا كتب إن سعيّد يعاني من أزمة خيال، وإن جملة هذا الرئيس "من يريد خرائط للطريق يبحث عنها في كتب الجغرافيا" هي "أكثر العبارات عنفيةً في تاريخ الخطاب السياسي في تونس". ولا يملك واحدُنا غير أن يصطفّ مع كمال الرياحي في مذهبه إن "رئيس دولةٍ يتمسّك بكل السلطات، ويجيب سائليه عن المستقبل: ابحثوا عنه في الكتب، هذا خطابٌ لم يصل إليه أي نظام بطريركي فيما قرأناه، لأنه يضرب حتى مشروعيته الشعبوية، ويجعلها في حرج ...".
تُراه أصاب الرياحي عندما يرى أن أزمة الخيال التي يعانيها الرئيس قيس سعيّد صارت واضحةً من خلال إتيانه عباراتٍ مسجوعةً كسجع الكهّان، "تحمل شحنة تهديد، يلعب فيها الجِناس التام دورا رئيسا عجز عن أن يؤدّي واجبَه الساخر، لا قوّة التهديد، لأن التكلّف كان واضحا من خلال إعادة العبارات مرّاتٍ أمام الكاميرا كل مرّةٍ بطريقةٍ متلعثمة، في محاولةٍ لإيصالها بأي الطرق، وكأنه ما خرج إلا ليقولها قبل فسادها في رأسه. ويؤكّد أنه أجبَر نفسَه على حفظها، ويذكّرنا بأنه من أولئك الأساتذة الملّائين على طلبتهم دون أن يشركوهم في النقاش".
لا يستحوذ قيس سعيّد وحدَه على كتاب كمال الرياحي، كما يستحوذ على كل السلطات في تونس، فثمّة مطارح فيه لأحزاب هذه البلد بعد قرارات "25 جويليه"، عندما يُماثلها الكاتب الأريب بالطعام الفاسد الذي يُترك في الثلاجات في أثناء السفر. ومطارح للمثقفين الذين تسابقوا إلى تحويل تلك القرارات أبدية، ولأغنية لطيفة العرفاوي شديدة الخطورة، وهي المغنيّة التي يذكّرنا الرياحي بأن ابتسامة قيس سعيّد النادرة ظهرت في صورتِه معها في القاهرة.
ليس هذا التعليق المتعجّل لإيجاز كتابٍ من 256 صفحة، ولا للإضاءة على مضامينه، وإنما للانتصار له ولكاتبه وحسب، في لحظةٍ في تونس باهظة الرثاثة.