أن تُشاهد "قَلِقٌ في بيروت"
لم يكن مازحا تماما، صديقُنا الشاعر اللبناني، عقل العويط، لمّا قال لنا، نحن أربعة أصحابٍ له، في سهريّةٍ في منزله في بيروت، في غضون هبّة تشرين (2019)، إن النظام في لبنان أقوى نظامٍ في العالم. يكاد سقوطُه يكون مستحيلا، لأن كل أركانه، تخاصَموا أو تفاهموا، تنافروا أو اتفقوا، يحمونَه ليحموا أنفسَهم وبقاءَهم في سلطاته. أميل إلى القول هنا إن الحلم الذي يشتاق إليه المخرج اللبناني الشاب، زكريا جابر، وجيله (ما بعد الحرب الأهلية)، إسقاط النظام اللبناني، الفاسد الرّث السارق، عسيرُ التحقّق. ولهذا، ربما، كان الإحباط من أهم ما يُحرزه مُشاهدُ فيلم زكريا "قَلِقٌ في بيروت"، ذلك أن شبابا لبنانيا يُقاوم اليأس، بكل ما في وُسعه أن يفعل، لكنه لا يفلح. ينجَح في إسقاط حكومة، حكومة سعد الحريري مثلا في غضون الهبّة اللبنانية، الساخطة الحانقة، العابرة للطوائف والحساسيات والولاءات والأجيال، لكنه لا ينجَح في إسقاط النظام، وهذا مُراده من قبلُ ومن بعد. يقول هذا زكريا (أو ربما أحد أصدقائه) في الفيلم الوثائقي، التوثيقي (93 دقيقة): إنهم نجحوا في إسقاط حكومة، ولم ينجحوا في إسقاط النظام .. وهل في وُسعهم هذا، وقد حسَم الأمر عقل العويط، وحسَمه الفيلم في قولته الأساس، إن اللبناني مخيّر بين المطار أو التابوت، بين السفر أو الموت في انفجار أو غيظا أو طَفَرا أو ضجرا، أو لأيٍّ من أسبابه الوفيرة في البلد العربي الذي كان في زمن مضى عنوانَ الفرح بالحياة، ثم صار المزاج العام فيه قَلِقا ومُقْلِقا، من فرط ما تتراكم فيه من عناوين التوتّر العام والفردي. وفي المقدور أن ينضاف، إلى فضيلة الإحباط التي يُحيطنا بها فيلم زكريا جابر، أنه يضجّ بنقصان المرح، وإنْ يُضحكنا في غير مشهد، غير أنه ضحكٌ كالبكاء من اتّساع خرائط الأسى والحزن الشفيفيْن، وانحسار الأمل والتفاؤل الشحيحيْن.
أعطوا زكريا جابر في مختتم مهرجان عمّان السينمائي الدولي، في دورته الرابعة، الثلاثاء الماضي، جائزة أفضل مونتير عن فيلمه الحَسن، الذي عُرض مرّتين في المهرجان، الأولى في فضاء مكشوفٍ في أمسيةٍ كانت حرارة الطقس فيها عاليةً بعض الشيء، والثانية في صالة سينما راقية مكيّفة، كان طيّبا أنني حظيتُ بالمشاهدة الثانية، وإلا ربما ما تحمّلتُ أن يُضاعف الحَرّ سوء المزاج المتكدّر الذي أحرزتُه، كما غيري ممن شاهدوا معي هذا الفيلم الذي نجح في مزاوجة الشخصيّ بالعام، الحميميّ الخاص بالمجموع، الفردانيّ الذاتيّ بالكلّ اللبناني العريض. تطوف الكاميرا في منازل وشوارع، في زقاق ومستشفيات، في ميادين ومصارف. يبدأ بتلّة زبالةٍ تراكمت وتعاظمت، ليعبُر من مشهدها إلى حكاياتٍ تعدّدت، تقاطعت، من ماضٍ ذهب للتوّ، موصولٍ بحاضر مشوّش، وإلى أسئلةٍ تبثّ تلالا من الحيرة، وإلى وجوه لبنانيين كثيرين، بينهم الشابتان نور حجّار وفرح درويش، وكذلك والد المخرج، الشاعر والمسرحي يحيى جابر الذي أشاعت لقطة الكاميرا فائضا من المغازي والمغاني، وهي تصوّره عندما يُغالب حزنا في حواشيه، كما تبدّى في عينيْه غير الواسعتيْن، وهو يقول ما يقول عن جيش لبنان الذي يؤجّر مروحياتٍ له ليتنزّه فيها زوّارٌ وسيّاحٌ ومن يريدون أن يتفرّجوا من فوق... شوهدت بيروت، مباني أحيائها، من فوق، وشوهدت من تحت. شوهد البحرُ غير البعيد. شوهد قلق الناس في غضون جائحة كوفيد، ثم في أثناء انفجار المرفأ، الحدث الذي كاد يصيّر فيلم زكريا جابر روائيا دراميا، غير وثائقي، فقد جاء الحدثُ وكأنه من نواتج مقدّماتٍ ساقها الفيلم الذي اعتمد العفوية والطلاقة والسلاسة والحرّية في جريان صوره وتقطيعاتها.
على غير ما فعلوا في مهرجان شنغهاي السينمائي الدولي الذين منحوا "قلِقٌ في بيروت" جائزة أفضل وثائقي، أعطوه في مهرجان عمّان جائزة أفضل مونتير، وكأنهم في الصين راقَهم أن يروا ناسا يتظاهرون ثم يُحبَطون، وعايشوا كورونا ببعض التسلية والحذر، ودولتُهم الغائبة التائهة لا شيء يدلّ عليها سوى العسكر الذين يَضربون، ويتأهبّون في الشوارع والميادين لكل من يغضَب ويلعن ويجهَر بحِنقه. كأن هذا كله عجيب هناك في شنغهاي، والأعجب أنه يجد سبيلَه إلى الكاميرا لتوثّقه. أما جماعتُنا في عمّان، ربما لم يلحظوا أي غرابةٍ في الذي وضعه قدّامهم زكريا جابر (ساهم معه في كتابة الفيلم عمر ليزا وجمانة سعادة)، فالقلق ذائعٌ في كل مدينةٍ عربية، والمَشاهد التي تتابعت في الفيلم، وبعضُها زائدٌ أو متشابه، استحقّ المخرج عليها جائزةً في تقطيعاته لها، وفي الإيحاءات التي أرادها منها .. على أي حال، مبروك لزكريّا، ومبروك لنا، نحن الذين شاهدْنا الفيلم، جرعات الإحباط واليأس التي تزوّدنا بها، اليأس من إسقاط أقوى نظام في العالم.