أن نتذكّر بوتفليقة
انعقدت، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1974، الدورة 29 للجمعية العامة للأمم المتحدة، في نيويورك. أهميتها في أن ياسر عرفات ألقى فيها خطابه (التاريخي طبعاً)، وقال ما قاله عن البندقية وغصن الزيتون. عندما تُستعاد من الأرشيف الصورة التلفزيونية لذلك المشهد، يظهر فيها، عرَضاً، ثلاثة على المنصّة خلف عرفات خطيباً، أحدهم الأمين العام فالدهايم، ووسطهم رجلٌ بشعرٍ وسالفٍ طويليْن (موضة السبعينيات؟)، اسمه عبد العزيز بوتفليقة، كان رئيساً للدورة الأممية باسم بلاده الجزائر، وهو وزير خارجيتها في حينه. المنصب الذي تولّاه في الخامسة والعشرين من عمره، في 1963، أي بعد عام من استقلال الجزائر، حتى 1979، بعد نحو عام وزيراً للشباب والرياضة. في طوْر السبعينيات ذاك، إبّان كان هذا الشاب وزيراً للخارجية، كانت الجزائر (والعراق) مرشّحةً لمغادرة عالمثالثيّتها، بفعل مؤشّرات التقدّم والتنمية العامة المتحقّقة فيها. وفي الأثناء، كان بوتفليقة وزير خارجيةٍ عربياً لامعاً، يحتكّ بخرائط العالم السياسية ومتغيّراتها، مسنوداً بارتياح الرئيس هواري بومدين له، تبدو فيه علائم ثقافته الجيّدة، حيث ظل يحرص على القراءة والمعرفة في الأدب والتاريخ. وسابقاً على رئاسته دورة الأمم المتحدة تلك، يُخبرنا الراحل محمود السمرة (أستاذ للأدب العربي ورئيس سابق للجامعة الأردنية ووزير أردني سابق) أنه لمّا حضر اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني الأول في القدس في 1964، تعرّف إلى الضيف المدعو إلى المؤتمر، عبد العزيز بوتفليقة، وترافق معه (وآخرين) في مشوار إلى رام الله، وفي الطريق إليها من القدس، لمّا شاهدوا الفيلات الأنيقة الجميلة التي يبدو عليها بعض الترف، سأل بوتفليقة: هل من المعقول أن الفلسطينيين الذين يعيشون في هذه المنازل قادرون على تحرير فلسطين؟ (المحتلة في 1948 طبعا). وأجاب: "نحن هنا على حدود ما اغتصبته إسرائيل من أرض فلسطين، ولكن ما يبدو لي لا يوحي بأن السكان يحسّون بخطر يتهدّدهم".
لم يعد بوتفليقة أعلاه وزير خارجية الجزائر العتيد، الشديد الجذريّة على النحو الذي في واقعة رام الله تلك، وإنما صار رئيس الجزائر الذي يُصافح إيهود باراك في الرباط، صار الرئيس التاسع بعد الاستقلال، الأكثر إقامةً في رئاسة البلاد من سابقيه (عشرين عاماً إلا شهوراً). اعتُبر مرشّح الجيش في الانتخابات التي صيّرته رئيساً، فكان مرشّحاً وحيداً فيها، بعد انسحاب خمسة متنافسين فيها، وقد قالوا إن إسناد الجيش الرئيس "المستورَد" مكشوف. ثم جاء الرجل إلى قصر المُرادية، وأنجز خطّةً أنهت الجزائر بها "العشرية السوداء"، في عفو شامل، بعد استفتاءٍ ناجحٍ على "ميثاق السلم والمصالحة"، فأمكن القول إنه من أقفل ما عُدّت حرباً أهليةً مقيتةً في البلاد، وإنْ ذاع أنه اتُّهم باختلاسٍ ارتكبه في ستينيات بومدين وسبعينياته، ما جعله يُغادر البلاد للإقامة في أبوظبي، ثم يعود بعد عفو من الرئيس الشاذلي بن جديد. ولك أن تقول إن عشريته الأولى رئيساً شهدت تطويراً منظورا في البلاد، بناء سدود ومطارات وجامعات وطرق، وكذلك تنميةً ملحوظةً في الهوامش، ما أشاع مزاجا عاما من التفاؤل ببلدٍ ينهض من عثرات أزمةٍ حادّة.
هنا، في الوُسع أن يكتب واحدُنا إن بوتفليقة كان سيصير من بناة الجزائر الحديثة، الذين يُخلع عليهم التقدير المستحقّ، لو أنه لم يفعل ما فعل تالياً، لمّا استبدّ به مرض السلطة وشهوتها، عندما عَمد، بإسنادٍ من قوى دولةٍ عميقةٍ، أولها الجيش، إلى تعديلٍ في الدستور ليُجاز له المكوث رئيساً بعد ولايتيه الأوليين، ثم تتابعت أخريتان، في أثنائهما في 2005 أصابه المرض الذي أقعده تالياً. وفيهما صارت تتكشّف تفاصيل الفساد المهول في البلاد، وأوجه التحكّم والنفوذ التي يزاولها عديدون، في مواقع المسؤولية، تمكّنوا من دواليب السلطة، صرنا لاحقاً نقع على تسميتهم "عصابةً"، لعلها التي كانت وراء الدفع إلى "عهدة خامسة" للرئيس المريض، بل أخذت ممارساتها، المكشوفة والخافية، الشعب الجزائري إلى انتفاضته في الحراك الذي أزاح بوتفليقة، وتطلّع فيها إلى جمهورية ثانية، لا يبدو أن الجزائر الراهنة في طور الوصول إليها، فمحاسبة مسؤولين سابقين وإيداعهم السجون ليسا وحدهما المطلوبيْن، بل ثمّة الديمقراطية الحقّة المشتهاة، وتثوير المؤسسات من أجل حداثةٍ ملحّة، وترك سياسة تبديل الوجوه من دون إحداث سياسات تقطع مع الديكورية وألبسة النظام القديم المرقّعة.
رحم الله عبد العزيز بوتفليقة .. كثيرٌ من الكلام عنه هو كلامٌ عن مرحلة عربيةٍ آفلة، وعن أزمنةٍ جزائريةٍ كانت فيها انعطافاتٌ وتحولاتٌ تحتاجان قراءة أعمق، وهذا شغل غيرنا.