أهلاً بكم في "أذكى" جمهوريات الفساد
في زمن بعيد سحيق، منذ ست سنوات، كانت تعلو أصواتٌ هنا وهناك. عن لحْمة منتهية الصلاحية اشتراها المواطن، عن زَنْخة الدجاج والسمك، عن طعم مياه المجارير في الخضار والفواكه، عن أهراءات القمح التي تغزوها الجراذين. وكانت يومها الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، الشخص نفسه الذي بدأ يشتهر في الآونة الأخيرة بزياراته البيزنطية إلى ميشال عون، أملاً بعودته إلى منصبه السابق المشرّف.
المهم أنه في حكومة ميقاتي الماضية هذه، كان هناك وزير للصحة. رجل "شاب"، كما كانت الموضة وقتها، قبل أن تحلّ موضة النساء. ومحسوبٌ على أحد أقطاب الطوائف. إنّه وائل أبو فاعور، الذي شغل الناس والتلفزيونات أشهُرا، في حملة سمّاها "سلامة الغذاء". وفي جعبته كلمة واحدة تسقط على رقبة الذي يجد عنده بضاعة "غير مطابقة المواصفات". يطلقها الوزير على كلّ مستودع أو محلّ يكتشف فيه بضاعة فاسدة غير قابلة للاستهلاك الآدمي. والحملة احتفلت بها التلفزيونات، وهلّل لها المواطنون، على أمل... لعلّ وعسى... بأنّ "وزيراً شاباً" يخترق القواعد، ويضرب بسيف الحق كلّ من سوّلت له نفسه الغدر بصحة المواطن وقتله عبر بيعه بضاعة "غير مطابقة للمواصفات".
أما النتيجة، بعد حين، فكانت صفراً مجلجلاً. علِقَت صورة الوزير الشاب الشجاع، الذي يدهم المخابئ والملاحم والمسمِكات والبرّادات والأهراءات. وما عدا ذلك، تراجعت نوعية الطعام كله. وكأنّ الحملة أطلقت خيال الغشّاشين لمزيد من الزعْبرة. وصارت نوعية الغذاء تتدهور ببطء وثيق، كمَنْ يملك مفتاح المستقبل. من دُهموا وانكشفت بضاعتهم، بقي "سجِلّهم" نظيفاً. لم تلحقه بصمة عار واحدة. ولا تحقيق، ولا استنابة قضائية. وإذا حصلت، يُختتم الاستجواب بزيارةٍ إلى سعادة القاضي، مع فنجان قهوة. بل في عهد الوزير الشاب الشجاع، علَتْ أصواتٌ شابة أخرى. منها مثلاً حركة "بدنا نحاسب"، التي تقدّمت بإخبار إلى النيابة العامة المالية، عن مخالفات مالية وإدارية في وزارة الصحة وفي المستشفيات الحكومية. ومن نتائجها، هدر المال العام، وعمليات اختلاسٍ نفّذها موظفون كانوا قد انتفعوا من القرارات التي اتخذتها وزارة الصحة. أين ذهب هذا الإخبار؟ في أيّ دهاليز ضاعَ؟ لا أحد يمكنه الإجابة إلا بعد تحقيق، تحقيق في التحقيق الذي لم يجرِ.
من دُهموا وانكشفت بضاعتهم، بقي "سجِلّهم" نظيفاً. لم تلحقه بصمة عار واحدة. ولا تحقيق، ولا استنابة قضائية
وبعد بضعة أشهر، وكان الوزير النزيه الشاب لا يزال في موقعه، اندلعت حركةٌ إحتجاجية، يقودها شبابٌ أيضاً، غزَتْ تظاهراتهم العاصمة، اسمها "طلعت ريحتكن". على ماذا؟ على تراكم النفايات في الشوارع والأزقة، على تصاعد الذُباب والجراذين في أنحائها المُعتمة، على الروائح المنْبعثة من أكوامها هنا وهناك، حاملةً معها أنواعاً من الفيروسات، فصارت العاصمة تشبه عرين القذارة.
ولسببٍ من الأسباب، ركّزت حملة "طلعت ريحتكن" على وزير البيئة وحده، محمد المشنوق، وكان من "ضعفاء" حكومة ميقاتي، فأعفت بذلك وزير الصحة من مسؤوليته، بعدما توِّج بإكليل الغار، لشجاعته التلفزيونية على الفساد. وحصل تقاذفٌ للمسؤوليات على طريقة جبران باسيل "ما خلّونا نشتغل" فضاعت الطاسة، وانتهت الحركة الاحتجاجية إلى لا شيء. وما سيحصل من بعدها كان مثل الإعداد لمرحلة متقدّمة من تدمير حياة الناس بالفساد على أشكاله.
اليوم، وبعد انقضاء السنوات الست هذه، قام بالحركة نفسها نظير الوزير الشاب، حمد حسن، وزير الصحة في حكومة حسّان دياب. ماذا فعل هذا الوزير ليبدو أنه في طريقه إلى حلّ موضوع اختفاء الأدوية عن الصيدليات، ومنها أدوية الأمراض المستعْصية؟ قال لنفسه إنّ زميله السابق، المحسوب على أضعف الأقطاب الطائفية، لن يكون أشطر منه، هو الذي جاء به حزب الله، من "حصّته". مثل نظيره السابق في هذه الوزارة، أخذ الكاميرات إلى حيث دهمَ مخازن لمحتكِرين يخبئون الدواء عن المواطنين، فأتت الكاميرات في البداية، ووقعت على اثنين من كبارهم: عصام خليفة، شيعي، من البيئة نفسها، يتصدّر الاحتفالات الدينية في الحسينيات، ويتصدّر صفوف جمهور خطب حسن نصر الله، ويحمل سبحة... إلخ. وحسين مشموشي، سنّي، أقل شهرة منه. إلى درجة أنّه أربك حسابات "المساواة" بين الطوائف، وتبيّن أن علاقاته لا تقتصر على أقطاب السنّة، بل تتعدّاها إلى القطب الدرزي الأقوى (وقد تكون هذه الانتسابات الغامضة بغرض التشويش).
على التلفزيون، بهْدَل الوزير الرجلين المحتَكِرَين، وقرّر إغلاق مستودعيهما، وتسجيل مخالفات بحقهما. ولم تمض أربع وعشرون ساعة على هذه البطولة، وتهليل المواطنين، مرّة أخرى، لهذه الجرأة، بأن كيف يجرؤ الوزير الشجاع على النّيل من سمعة أحد وجهاء بيئته، صاحبة الشوكة الأقوى. لم تمضِ أربع وعشرون ساعة إذن، حتى خرج الوزير على الشاشة نفسها، ليقول إن مستودع الحاج عصام خليفة "مرخّص وقانوني" وإنه قرّر السماح له بالاستمرار ببيع الأدوية "بعدما تبيّن أنه كان يمدّ الصدليات بالدواء إنما بكميات قليلة" (ماذا تعني "كميات قليلة"؟). أما المحتكِر الثاني، فتوارى، ولا نعرف عنه أنّه حوسب، كما لم يُحاسَب أيٌّ ممن سوف يكشفهم الوزير لاحقاً في احتكار الدواء، أو يكشفهم الجيش في احتكار البنزين.
بين هذه القشرة الأولى السميكة، الغليظة والقشرة الأخيرة مسافة يقع فيها أقل المواطنين تدبّراً
بعد ذلك بقليل، يأتي صوت النائب عن حزب الله، حسن فضل الله، المتخصِّص منذ سنوات بـ"الإنذار" من أنه "يملك ملفّات فساد" عاتية بحق بعض المسؤولين، وأنه "سوف يكشفها إلى العلَن يوماً ما". ماذا يقول صاحب "الإنذار" اليوم بخصوص موقعة زميله وزير الصحة؟ يدلي بتخصّصه، يزايد عليه، بما يشبه الخطاب، إليك أهم مقتطفاته: "رغم فداحة ما ارتكبه محتكرو المشتقات النفطية والأدوية والسلع الأساسية وضبطهم بالجرم المشهود، فإنَّ أيّاً منهم لم يُحاسَب بالعقوبة القصوى بالحبس والحرمان من ممارسة المهنة، أو الإقفال النهائي لمحل العمل، ومضاعفة العقوبة في حال تكرار الجُرم، وهو ما ينصّ عليه قانون العقوبات والقوانين الأخرى مرعية الإجراء (كما في المادتين: 685 و688 من قانون العقوبات)، وهو ما يُثير الشكوك لدى غالبية اللبنانيين بوجود حماياتٍ سياسيَّة لكبار المرتكبين أفراداً وشركات" سائلاً: "هل يحتاج القضاء إلى أدلَّةٍ أو مستنداتٍ أو أسماء أكثر ممَّا بين يديه من جرمٍ مشهودٍ بالصوت والصورة يرتكبه محتكرون فاسدون بحق اللبنانيين جميعاً، وعلى مرأى منهم، ويتم ضبطه على أيدي الضابطة العدليَّة".
هذا النائب "المقاوم" مالِك ملفات الفساد "الخطيرة" تجاوز كلّ الحدود القائمة بين العمل والقول، وبين القول والقول، وبين العمل والعمل. وهل يحتاج المواطن إلى مادّة إضافية من مواد الغش السياسي؟ وزيرَين محسوبين على الحزب نفسه: واحد "يدهم"، ويتعذّر... ثم يتابع، والآخر يطالب الدولة بتطبيق القانون. والاثنان، الدولة والقانون، دمّرهما حزبه، بالشراكة مع خصومه. ومع ذلك، متى يضرب ضربته هذا النائب، ويريح ضميره من ملفاتٍ ثقيلة، حتى لو كانت لخصومه؟ في "المكان والزمان المناسبين"، يقول لسان حاله، كما يفعل حليفه الإقليمي بشار الأسد بخصوص الردّ على هجمات إسرائيل.
في هذه الأثناء، كان الجيش يشارك الوزير بمداهمات مخازن النفط والكاز والأدوية المخبأة، فيكشف عن تورّط مزيدٍ من أسماء محسوبين على زعامات أخرى حاكمة، من أقواها، وحتى أضعفها. حزب القوات اللبنانية، الذي يتصرف وكأنّه حصلَ على كلّ المقاعد المخصّصة للمسيحيين في الانتخابات المقبلة... هذا الحزب يغطّي فاسديه ومحتكريه. مثله مثل ذميي الأحزاب الأخرى النقّاقة، الباكية على خراب البلد على يد حزب الله وحده. تيار المستقبل، حزب جنبلاط "الاشتراكي" فضلاً عن حلفاء حزب الله.
الاحتكار والتلاعب بالأسعار لعبة كبار، وليس مسموحاً للصغار بمزاولتها، وإن تعبوا بها أكثر مما يتعب الكبار
كلّ هؤلاء الناس هم قشْرة من المجتمع يجب عدم الاستخفاف بقوتها الخفية، بتمدّدها وتسرّبها، وتداخلها مع القشْرة الأدنى منها. إنها الشبكة التي تسمح للطبقة بأن تبقى على قيد الحياة. أن تموّل، أن تحمى، أن يُسكت عنها. طبقة محصّنة تملك مخزوناً هائلًا من الشرّ المتواري خلف المعْسول. بين هذه القشرة الأولى السميكة، الغليظة والقشرة الأخيرة مسافة يقع فيها أقل المواطنين تدبّراً. فاذا وضعتَ جانباً بعض "المرتاحين" الذين يقبضون رواتبهم بالدولار، فإن ثمّة قشرة في قعر المجتمع، فقدَ الرجال فيها وسائل العيش الأدنى، يشتغلون ما يشتغل به السياسيون، بعياراتهم المتواضعة: يملؤون سياراتهم بالبنزين، يفرغونها في الغالون الذي يبيعونه على الطرقات بـ"الفرشْ موني"، بالدولار. هذا في البداية... عندما كانت المحطّات تلبّي طلبات الزبائن، وإن متأخرة قليلا. أما الآن، فقد استفحل الوضع، وأقفلت محطات وهوجمت أخرى بالسلاح، وسقط قتلى وجرحى. فكان اختراع "الخلوّ" الذي قضى بأن صاحب السيارة يضع سيارته ليلاً أمام المحطّة، محتفظاً بدوره. ينام ويعود في النهار التالي يعبئ البنزين، يُفرغه، ثم يبيعه بثمن مضاعَف عن السابق. ولدى السؤال عن هذا الارتفاع، يجيب بأنه فرق سعر "الخلوّ". والخلوّ هو بالتعريف الفقهي: "تنازل المرء بتعويض مالي يقبضه من له حق الإخلاء من العقار مقابل تنازله عن حقه بإخلاء المستأجِر عند انتهاء مدة الإيجار". العلاقة بين خلوّ البيت وخلو السيارة ضعيفة. وليس مهما مطابقتها مع واقعها. المهم كلمة "كبيرة" مفحمة، تملأ الهواء الفارغ، وتقنع "الزبون" اللجوج الذي لا يطيق الانتظار في محطّات البنزين. مثلما يفعل "القادة المسؤولون".
لكن مهلاً: الاحتكار والتلاعب بالأسعار هما لعبة كبار، وليس مسموحاً للصغار بمزاولتها، وإن تعبوا بها أكثر مما يتعب الكبار، وإنْ كانت أرباحهم لا تزيد عن حاجتهم الملحّة لرغيف خبز. عليهم أن يبقوا "أوادم". لذلك أقدمت بعض البلديات الساهرة على عمل "ذكي" آخر: منعت ركْن السيارات ليلاً أمام محطات البنزين.
والآن، انتظروا، بعد هذا القرار، طريقة جديدة لسرقة الناس، يقوم بها هؤلاء اللصوص الصغار الجدُد على المهنة، يخترعون سبيلاً ً للنجاة من الجوع، يقلّدون نموذجهم في الحكم والقتل والسرقة. وتصحّ ساعتها المعادلة بوجهَيها: كما تكونوا يولّ عليكم. وكما يولّ عليكم تكونوا. فيطول بذلك عمر الحكم، ولو على خرابة.
ملاحظة: لخبر اتهام النقيب السابق للصيادلة باحتكار الدواء موارباتٌ لا تقل "ذكاء". وللبحث صلة...