أوروبا ويمينها المُتطرّف
حين تُعلَن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، مساء غد الأحد، سيخرج من يقول إنّ "أوروبا جديدة وُلدت في القرن الـ21"، وذلك في ترجمة لصعود اليمين المُتطرّف، وترجيح حصوله على نحو 25% من أصوات الناخبين الأوروبيين، أي نحو 180 مقعداً من أصل 720. بالصورة الشاملة، إنّ هيكلية البرلمان الأوروبي متشابكة مع باقي مؤسّسات الاتحاد الأوروبي، بما لا يسمح بتفرّد أيّ مؤسّسةٍ بالقرار القاريّ. غير أن حصول اليمين المُتطرّف على أرقام عالية في البرلمان الأوروبي، لا يعني أكثر من تمكّن التطرّف من تأمين استمراريته، بعد نحو عقدٍ من تنامي نفوذه، بفعل أخطاء أوروبية، وأيضاً، بفعل "قناعة" كثيرين بجدوى خطاب الكراهية ومعاداة اللاجئين.
المسألة غير مرتبطة حصراً بنجاح اليمين المُتطرّف في هذه المؤسّسة، بل في انعكاسها لاحقاً على الدول الأوروبية، كلّ بمفردها، سواء في فرنسا، إذ باتت مارين لوبان في طريق الحلول مكان إيمانويل ماكرون في الإليزيه، في عام 2027، أو في إيطاليا، حيث تتحوّل جورجيا ميلوني "قيصراً" مُتحدّراً من روما الخالدة، تحديداً، في ظلّ مساعيها إلى تجميع الأجنحة اليمينية الأوروبية تحت ظلالها. في الأساس، كيفما تنظر إلى أوروبا تجد يميناً مُتطرّفاً، إمّا في السلطة أو معارضاً أكبر. حتّى أنّ ألمانيا، التي تباهت بالقضاء على مفاهيم العنصرية التي أرساها الحزب النازي في الثلاثينيات، باتت تراقب برعب اختراق الوريث المُفترض، حزب البديل من أجل ألمانيا، برلين وبروكسل.
يعني ذلك أنّ مستقبل أوروبا اليميني المُتطرّف لم يعد غداً، بل اليوم. وما كان مُرتقباً حين تمكّن جان ماري لوبان من الوصول إلى الجولة الثانية من الرئاسيات الفرنسية في عام 2002، بوصفه أول يميني مُتطرّف ينافس في الجولة الأخيرة على رئاسة فرنسا، أضحى أمراً واقعاً، ما سيُفضي إلى تغييرات جذرية في السياسات الداخلية الأوروبية. ومع أنّ أولى مُؤشّرات هذه التغييرات، برزت بمحاولة أولاف شولتز في ألمانيا، وماكرون في فرنسا، وغيرهما، في اعتماد سياساتٍ مُحاكيةٍ لأفكار اليمين المُتطرّف، غير أنّ أمثال الأخير لا يقبلون بأنصاف الحلول، رغم أن ميلوني قدّمت نموذجاً لما يمكن تسميته بـ"السياسي اليميني المُتطرّف البراغماتي". لن يهدأ اليمين المُتطرّف في أوروبا، شأن كلّ ما هو مماثل له في العالم، قبل تحقيق أجندته، التي تفرز الناس إلى طبقات دينية وعرقية، وتصنّف البشر وفقاً لترتيب لا يدرك كنهه سوى اليمين المُتطرّف لا غير.
وبما أنّه صادف أنّ أوروبا، منذ معاهدة وستفاليا (1648) والنهضة الصناعية وعصور التنوير والثورات، مختبر الأفكار وانتشارها في العالم، فإنّ تداعيات تقدّم اليمين المتطرّف فيها، تشريعياً، ستؤثر بدرجة هائلة على العالم: من الجوار الشرقي في روسيا وتركيا وجنوب المتوسّط وشرقه، إلى خلف المحيط الأطلسي، حيث ينتظر البيت الأبيض عودة دونالد ترامب إليه، ما لم يحصل ما يغيّر مسار الرئيس السابق. ستفضي هذه التحوّلات إلى حيث يحلو لفلاديمير بوتين وشي جين بينغ القول إنّ "عالماً مُتعدّد الأقطاب قد بدأ"، على قاعدة أنّ اليمين المُتطرّف يعزل نفسه إذا كان في عالم غير قادر على مواجهته، أو يسعى إلى تغيير هذا العالم، إن رأى أنّ له قدرة على ذلك. الصين وروسيا، بموقعيهما الجغرافيين، قادرتان على اختيار الخانة الأنسب لهما.
المشكلة، هنا، أنّه في حالتي العزلة أو الاندفاع، فإنّ الفراغ الذي ستخلّفه الأجنحة الاشتراكية، وحتّى اليمينية الوسطية، ستملأه فوضى عارمة، خصوصاً في حال استمر تنامي التضخّم المالي العالمي. هنا أيضاً، لا يعود للأفكار قيمة، لأنّ المنطق الغرائزي سيطغى على سلوكات الناس بحجّة الفقر والحاجة وغيرهما. ميزة أساسية تبقى في هذه اللحظة الأوروبية؛ أنّه يُمكن بعد السيطرة على نموّ اليمين المُتطرّف، لئلا ندخل ثلاثينيات القرن الحالي، ونرى هتلر ما يتخندق في برلين، وموسوليني آخر يرقص في ساحات روما، فيما النيران تحرق القارّة القديمة.