لمن الغلبة في الأزمة الأوكرانية.. للقوة العسكرية أم للعقوبات؟
يتعامل بعضهم مع الحرب المشتعلة حاليا على الساحة الأوكرانية وكأنها حربٌ بالوكالة، تشبه حروبا أخرى كثيرة، اندلعت إبّان مرحلة الحرب الباردة، وانخرطت فيها إحدى القوتين العظميين المتنافستين على قيادة النظام الدولي، كالحرب التي تورّطت فيها الولايات المتحدة في فيتنام في منتصف ستينيات القرن الماضي، والحرب التي تورّط فيها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان في نهاية سبعينات القرن نفسه. صحيحٌ أن بينها سمات مشتركة، في مقدمتها الحرص على تجنّب المواجهة المباشرة بين القوى النووية والاكتفاء بتقديم الدعم إلى "الوكيل"، إلا أن للحرب الأوكرانية الراهنة سمات خاصة تميزها عن كل ما سبقها من "حروب الوكالة"، في مقدمتها عدم اكتفاء أحد طرفي الصراع من مالكي السلاح النووي، وهو الطرف الأميركي في هذه الحالة، بتقديم دعم سياسي وعسكري للوكيل الأوكراني، وإنما إقدامه، في الوقت نفسه، على فرض عقوبات شاملة على الطرف النووي الآخر، وهو روسيا، ما يعني تحوّل الأزمة الأوكرانية إلى مواجهة مباشرة بين القوتين النوويتين العظميين، على الرغم من تباين الوسائل المستخدمة في إدارتها، حيث تديرها روسيا باستخدام القوة العسكرية. أما الولايات المتحدة فتديرها باستخدام العقوبات الاقتصادية والمالية، فلمن ستكون الغلبة في النهاية: للقوة العسكرية أم للقوة الاقتصادية؟
تفسّر روسيا لجوءها للقوة العسكرية، رغم التحريم القاطع من ميثاق الأمم المتحدة القاطع، ولو بمجرّد التهديد بها، بأنها تواجه تهديدا وجوديا من حلف الناتو، بسبب إصرار الولايات المتحدة على تحويل أوكرانيا التي كانت يوما ما جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق، وأصول 20% من مواطنيها روسية، إلى دولة معادية وخنجر مسموم في خاصرتها. تقول القيادة الروسية إنها حاولت مرارا وتكرارا لفت نظر الولايات المتحدة إلى خطورة استمرار توسّع حلف الناتو شرقا، وأوضحت، بكل الوسائل الممكنة، أن هذا التوسّع يعد تنكّرا لوعود سبق تقديمها لقادة الاتحاد السوفييتي إبّان الجهود المبذولة لمحاولة إعادة توحيد ألمانيا عقب سقوط جدار برلين. ولم تمل من القول إن انضمام جورجيا أو أوكرانيا لحلف الناتو خطّ أحمر لا ينبغي تجاوزه، ومن ثم ترى أنها استنفدت كل الوسائل السلمية، ولم يعد أمامها من سبيل آخر لإزالة هذا الخطر الوجودي سوى اللجوء إلى القوة المسلحة.
بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على بدء العملية العسكرية الروسية، ما تزال الحرب في أوكرانيا مشتعلة، من دون أن يظهر في الأفق دليل يشير إلى متى تنتهي ولا كيف. ويتضح من المسار الذي سلكته هذه العملية أن روسيا تسعى إلى تحقيق أهداف ثلاثة: تأمين المقاطعات الشرقية التي تقطنها أغلبية روسية، خصوصا جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، اللتين اعترفت باستقلالهما أخيرا. السيطرة على الموانئ البحرية الواقعة في الجنوب، لعزل أوكرانيا عن كل منافذها الساحلية. حصار العاصمة كييف مع مواصلة الضغط على الحكومة الأوكرانية الحالية إلى أن تسقط أو تستسلم لمطالبها التي تتمحور في مجملها حول فرض الحياد على أوكرانيا، بعد نزع سلاحها. ولأن الاستراتيجية الروسية تعتمد أساسا على القوة العسكرية وحدها، من الواضح أن نجاحها في تحقيق أهدافها يتوقّف، أولا وأخيرا، على القدرة على تحقيق انتصار عسكري حاسم في أسرع وقت مكن.
الولايات المتحدة تعدّ آخر دولة يحقّ لها أن تتحدّث عن الشرعية الدولية التي طالما أمعنت في انتهاكها مرارا وتكرارا
في المقابل، تبنّت إدارة بايدن استراتيجية مضادّة تستهدف منع روسيا من تحقيق الانتصار العسكري الذي تنشده، خصوصا أن هذا الانتصار قد يمكّنها ليس فقط من تحقيق كل أهدافها السياسية في أوكرانيا، وإنما أيضا من تحدّي مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي، وفتح الطريق أمام نظام دولي جديد متعدّد القطبية، وهو ما تصرّ إدارة بايدن على عدم السماح به مهما كان الثمن. من هنا، الإصرار على تبنّي استراتيجية تقوم على ركيزتين: الأولى، مدّ أوكرانيا بكل ما تستطيع من دعم عسكري وسياسي وإعلامي لتمكينها من المقاومة والصمود، أملا في تحويل المواجهة العسكرية الراهنة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، مع التحسّب، في الوقت نفسه، تجاه أي إجراء قد يؤدّي إلى احتكاك عسكري مباشر بين روسيا وأيٍّ من الدول الأعضاء في "الناتو". الثانية، فرض أقصى عقوبات اقتصادية ومالية ممكنة على روسيا، أملا في شلّ قدرتها على الاستمرار في تمويل الحرب، ولدفع الاقتصاد الروسي في مرحلة لاحقة نحو حافة الانهيار، أملا في القضاء نهائيا على كل طموحات روسيا المستقبلية، وربما دفعها نحو التفكك والانهيار، مثلما تفكّك الاتحاد السوفييتي من قبل، إن أمكن.
من شأن المقابلة بين هاتين الاستراتيجيتين أن تظهر مدى ما تنطوي عليه كل منها من نقاط قوة أو ضعف، فإدارة بايدن تعتقد أنها ضبطت بوتين، عقب إقدامه على استخدام القوة العسكرية الغاشمة، متلبسا بانتهاك الشرعية الدولية. وترى في ما ارتكبه خطأ استراتيجيا يمكن أن يساعدها على عزله سياسيا ودبلوماسيا، ليس فقط عن العالم الخارجي "المتحضّر"، وإنما عن قطاعات متزايدة من النخب السياسية الروسية التي قد تنقلب عليه، فضلا عن أنه يتيح للولايات المتحدة، في الوقت نفسه، استعادة زمام قيادتها تحالفا غربيا كان عقده قد انفرط إبّان فترة إدارة الرئيس السابق ترامب. ولأن هذا التحالف الموحد يملك من القدرات الاقتصادية والمالية أضعاف ما تملكه روسيا، فبوسعه أن يفرض على الأخيرة من العقوبات ما لا قِبل لها به، الأمر الذي سيؤدّي حتما إلى إجبارها على وقف عمليتها العسكرية في أوكرانيا قبل أن تتمكّن من تحقيق أي من أهدافها الرئيسية، خصوصا إذا نجحت الإمدادات العسكرية الغربية المقدّمة لأوكرانيا في تحويل الحرب المشتعلة فيها إلى حرب استنزاف طويلة الأمد للجيش الروسي.
لأن قيادة بوتين تعتقد أنها تخوض معركة وجودية ليس مستبعداً أبداً أن تذهب، في تصميمها وعنادها، إلى أبعد مدى ممكن
تبدو هذه الرؤية مفرطة في توقعاتها، وتستند إلى فرضياتٍ يصعب التيقن من صحتها، فالولايات المتحدة تعد آخر دولة يحقّ لها أن تتحدّث عن الشرعية الدولية التي طالما أمعنت في انتهاكها مرارا وتكرارا، خصوصا إبّان فترة انفرادها بقيادة النظام الدولي، فضلا عن أن الولايات المتحدة تعدّ، في الوقت نفسه، مسؤولة إلى حد كبير عن اندلاع الأزمة في أوكرانيا. ولا يعد هذا القول تعبيرا عن رؤية أيديولوجية معادية للولايات المتحدة، وإنما يعكس حقائق مبنية على تحليلات علمية، يطرحها ويتبنّاها قطاع مؤثر من النخبة الفكرية داخل الولايات المتحدة وخارجها (راجع على سبيل المثال ما نشرته صحيفة الإيكونومست يوم 11 مارس/ آذار الحالي، وعكس وجهة نظر عالم السياسة الأميركي، جون ميرشايمر، تحت عنوان: why the West is principally responsible for the Ukrainian crisis. وراجع مقال جيمس كاردن في "أسيان تايمز" يوم 14 مارس/ آذار تحت عنوان: The vindication of George H W B ).
على صعيد آخر، يمكن القول إن مصير الاستراتيجية الأميركية المضادّة، بعكس الاستراتيجية الروسية، لا يعتمد على إرادة الإدارة الأميركية الحالية وحدها وتصميمها، بقدر ما يعتمد على مواقف دول أخرى كثيرة ومهمة، كالصين والهند وإيران وغيرها من الدول التي يمكنها أن تلعب دورا مهما في إفشال العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فالصين وإيران يرتبطان معا في تحالف استراتيجي ضمني مع روسيا، إن لم يكن تحالفا صريحا ومعلنا. أما الهند فعلى الرغم من علاقات قوية تربط نظامها الحالي بالولايات المتحدة، إلا أن الصناعات والإمدادات العسكرية الهندية ما تزال تعتمد على روسيا إلى حد كبير، وبالتالي يتوقع ألا تنساق كليا وراء الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تركيع روسيا.
في المقابل، يبدو واضحا أن نجاح الاستراتيجية الروسية أو فشلها يتوقفان، إلى حد كبير، على مدى تصميم القيادة الروسية، ممثلة في الرئيس بوتين، على تحقيق أهدافها أكثر من توقفها على أي شيء آخر. ولأنها قيادة تعتقد أنها تخوض معركة وجودية يتوقف عليها مستقبل روسيا ومصيرها، ليس مستبعدا أبدا أن تذهب، في تصميمها وعنادها، إلى أبعد مدى ممكن، حتى ولو تطلب الأمر دفع العالم كله نحو حافّة هاوية نووية. فهل سينجح بوتين في حسم المعركة العسكرية التي يخوضها حاليا في أوكرانيا، وبالتالي هل سيتمكّن من تحقيق كل أهدافه أو غالبيتها، أم أن الغرب سينجح، على العكس، في تحويل هذه المعركة إلى حرب استنزاف طويلة المدى، تمهد الطريق نحو توجيه ضربة قاضية للاقتصاد الروسي، باستخدام سلاح العقوبات؟ .. ستكون الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة حاسمة في تبيّن معالم الطريق.