أيضاً .. جرائم الحرب الجنسية المنْسية
صدر التقرير منذ أكثر من سنة. علمنا به بفضل صحيفة الغارديان البريطانية، التي نشرت أكثر مقاطعه إثارة. أعدّته منظمة حقوقية مستقلة اسمها "الدعوى القضائية العالمية"، وتُعنى بضحايا العنف الجنسي في مناطق نزاع معروفة.
والتقرير هو الأول من نوعه. وهو أعمق وأوسع مما نقلته "الغارديان"، وأقل إثارة. يتكلم عن "أبطال" الجرائم الجنسية التي ارتكبت في أثناء الحرب الأهلية. وهم بحسب ما جاء فيه: "رجال تابعون للدولة، مليشيات مؤيدة لهذه الدولة، ومليشيات مناهضة لها". ضحايا "أعمالهم الحربية" هن من اللبنانيات والفلسطينيات. تراوحت هذه الجرائم بين الاغتصاب الفردي، الاغتصاب الجماعي، تشويه الأعضاء التناسلية، إذلال وتعذيب جنسي بالكهرباء في مناطق الثدي والأعضاء التناسلية، والتعرية التامة والإرغام على الدعارة. وأحياناً، إذا أصبحت الضحية غير صالحة للعيش، يقتلونها .. ومن أفعالهم المشتركة، ماركتهم المسجَّلة، ذاك الاغتصاب الذي يتم عبر قناني الزجاج.
الرجال في المنازل، في أثناء الحرب، إذا لم يُختَطفوا، يمارسون عنفاً منزلياً على نسائهم، وبعضه جنسي، أزواجاً كانوا أو غيرهم من ذكور البيت
أماكن الجريمة؟ كيفما اتفق، أينما كان: في مراكز الاعتقال التابعة لهذه المجموعة أو تلك، أمام حواجزها العسكرية، في الشارع نفسه، خلال أوقاتٍ لاهبةٍ من الحرب، كحصار المناطق أو المعارك داخل الأحياء. ولكن العنف الجنسي هذا لا يقتصر على الاغتصاب أو التعذيب ذاتهما. بل يتجاوزه في الأشكال غير المباشرة، فجرائم خطف الرجال تؤدي دائماً إلى استباحة نسائهم جنسياً. إذ يضيع المُعيل وحامي العُرض. ولكن أيضاً، الرجال في المنازل، في أثناء الحرب، إذا لم يُختَطفوا، يمارسون عنفاً منزلياً على نسائهم، وبعضه جنسي، أزواجاً كانوا أو غيرهم من ذكور البيت .. عنف صامت ولا يخرج من الأسوار العالية.
تتكلّم 36 سيدة في هذا التقرير، وبالتفصيل، عن أشكال هذا العنف الجنسي، بصفتهن ضحايا لهذا العنف أو شاهدات عليه. منذ بداية الحرب وحتى نهايتها (1975- 1990). وفي ثماني مناطق لبنانية مختلفة. ولبلورة المزيد، نظَّم معدو التقرير ست مجموعات نقاش مع 59 امرأة، وأجروا 150 تحقيقاً الكترونياً، وحاوروا 23 خبيراً، من أكاديميين وصحافيين وحقوقيين وعلماء نفس، لبنانيين وفلسطينيين؛ فضلاً عن عشرات المراجع الخاصة لكتابة خلفية الحرب الأهلية ومجرياتها. وهم يعِدون قرّاءهم بأنهم سيستمرون بالكتابة عن العنف الجنسي في لبنان خلال فترة الحرب، ولكن المتكلمين الضحايا سيكونون هذه المرّة من الرجال، ومن المِثْليين، والمتحوِّلين جنسياً.
وهو يتوصل الى توصيات: مدّ اليد للمساعدة القانونية والنفسية لضحايا هذا العنف، والمزيد من التوثيق لهذه الجرائم، وتوسيع قاعدة قرّاء هذه التقارير، وبذل الجهود من أجل المصالحة الوطنية بين اللبنانيين، ودعم لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، المعروفة بنشاطها منذ العام 1982.
ثقافة المنطقة بأسرها تحرم المرأة من جسدها، فهو رمز الجماعة. وإنْ داسته أقدام قذرة، فهي تمسّ الذكورة نفسها
هذا موجز عن التقرير. وأهم ما فيه، في سياق عرضه غير المسبوق للفظائع، ما جاء في مقدمته: إذ يعي معدّوه بأن عقوداً طويلة مرّت على هذه الجرائم، ولم يبادر أحد من بين اللبنانيين او اللبنانيات إلى البحث فيها. كان الصمت المطبق من نصيبها، أيضاً. يتساءلون عن أسباب هذا السُكوت، فيجدون جوابهم في ثلاثة: أولها فقدان الذاكرة عند اللبنانيين، على المستوى العام، الجماعي. والثاني هو ما يضعه التقرير بين مزدوجين: "التكيّف اللبناني" الشهير. والسبب الأخير هو "العار"، أو "العيب"، الذي تشعر به الضحية في حال عُرف أنها تعرّضت للاغتصاب، لأي نوع آخر من أنواع العنف الجنسي.
ضعْ الآن جانباً ما سمّاه "العار" أو العيب، الذي يمنع المرأة الضحية من البوْح بعنف جنسي تعرّضت له. وثقافة المنطقة بأسرها تحرمها منه، فجسدها هو رمز الجماعة. وإنْ داسته أقدام قذرة، فهي تمسّ الذكورة نفسها. وهن لذلك، في معظم الأحيان، ضحايا الضحايا. وسبيلهن مُشرّع أمام كل أشكال الأمراض النفسية، لا تبلْسمها الأيام، إنما تؤجّجها على نار خافتة مخْفية.
أما فقدان الذاكرة، فأمره أشمل. نحن جميعاً، مع نهاية الحرب، قرّرنا أن ننسى. زعماء المليشيا الذين أصبحوا "رجال دولة"، سارعوا في السنة الأولى بعد الحرب (1991) إلى إصدار قانون العفو العام، رقم 48-91، عن جرائم الحرب، بما فيها الجرائم بحق المدنيين. ثم "الشعب"، أي نحن كلنا: كل منا، ومهما كان عمره، كان يريد أن يعوِّض عن سنوات الحرب، التي ضيعت شبابه أو طفولته أو كهولته. فانطلقنا، وانطلق أكثر منا زعماء المليشيات الحربية، وقد أصبحوا حكاماً. تلك المليشيات، التي بالتأكيد ثمة من اقترف من بينها جرائم جنسية، كالتي وصفها التقرير، فتأسس ذاك السلوك "السياسي" الذي تجاوز كل الأعراف وكل المصالح كل أنماط القتل، يتبنّاه أصحاب حصانة، لا يحاسَبون ولا يحاكَمون، يمنعون المحاكمات التي تطاولهم، ويسخرون من قرارات المحاكم الدولية صدرت بحق أقوى أجنحتهم. هكذا، استطاب الحكم أنماطا من شذّاذ الأفاق وقطاع الطرق. يحكموننا وهم مستريحون.
جرائم خطف الرجال تؤدي دائماً إلى استباحة نسائهم جنسياً. إذ يضيع المُعيل وحامي العرض
ومن موهبة النسيان هذه، يغرف اللبناني كل طاقته من أجل التكيّف، ثالث أسباب الصمت. التكيّف، تلك "الميزة" المدهشة، الجذّابة، التي يتشاوف بها اللبناني أمام خلق الله. من أنه يستطيع أن يعيش تحت كل أنواع الدمار، مهما أنزلته عميقاً. ينسى فيتكيّف، فيبدع بالتغنّى بنفسه، ويطرب للإطراء، شعب "الفينيق"... وإذا تأفّف، تابَ، فجدّد بيعته.. فتكون الكوارث التي تهبط على رأسه، كل مرة امتحان، كل مرّة اختراع، وهو مستمرٌّ بتكيّفه، ينفش ريشه .. ببراءة، من دون براءة .. فيما هو يغوص أكثر فأكثر في وحول الكارثة.. وهكذا، حتى تحلّ قضايا الشرق والغرب، أو تقوم القيامة. وفي هذه الأثناء: "إنسى ..! إنسى ..!".
التذكّر، استعادة الذاكرة، الأبعد ثم الأقرب هو فعل مقاومة للتكيّف، ومعه النسيان. التذكر هو الذي يسمح لنا هي بمحاسبة الذين يمعنون في تخريب حيواتنا.
استعادة الذاكرة، كانت محور نشاط لقمان سليم وإنتاجه. وقد استشهد على يد لصوص الذاكرة. فالتذكّر يهدّد عرشهم، يعريهم، وينزل التكيّف من وضعية المسخرة حيث يربض. والتذكر هو أيضا محور نشاط السيدة وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المفقودين والمختطفين. والتي تبحث منذ أربعين عاما، ومعها رعيل الحرب من النساء، عن ابن أو زوج أو أخ .. اختفى، خُطِف في أثناء الحرب، ولم يَعُد. فيما الحكام في مكان آخر، في جنة مسامحتهم، وتنعّمهم بهذا الشعب طيب القلب.
هنا النص الكامل للتقرير:
They-raped-us-in-every-possible-way-23.05.2022.pdf (legalactionworldwide.org)
(كاتبة لبنانية)