أين اختفت العروبة؟
لا عرب بلا عروبة، ولا عروبة بلا قضية، ولا قضية بلا كفاح من أجل التحرّر، ولا تحرّر من دون الانعتاق من الاستعمار وذروته الصهيونية، ولا تحرّر من الصهيونية من دون تحرّرٍ من حلفائها الطبيعيين، من طغيان واستبداد وجمود وتخلّف. هذه كانت خلاصة بحث العرب عن ذاتهم في التاريخ منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أي قرن التنوير الأوروبي، الذي تَوَّج نفسه في التاريخ بالثورة الصناعية، وبالثورتَين الأميركية ثمّ الفرنسية، ثمّ ابتداء عصر الشعوب والدساتير والحقوق والحرّيات. كان العرب في قلب المساعي الإنسانية للخروج نحو النور، ففي ذاك النصف الذهبي من القرن الثامن عشر كانت حركة الإصلاح الوهابي (محمّد بن عبد الوهاب) تنبثق من رمال نجد، وتشعل النور في قلب جزيرةٍ عربيةٍ نامت في الظلمات أحقاباً، مزّقت أثواب الخرافة والشعوذة والدجل، التي أطفأت نور الدين الذي كان مِشعَل النور الوحيد، الذي سبق وأَخرَج الجزيرة إلى قلب المعادلة الحضارية والسياسية الدولية عند مطالع القرن السابع عشر، وقد ترافقت معها حركة علي بك الكبير في مصر، الذي أوشك، مثله مثل الوهابيين، أن يُؤسّس قوّةً إقليمية عربيةً صاعدةً تُفرّغ الاضمحلال العثماني من وجوده الآيل للسقوط، كما ترافق البعث الوهابي مع مشروع علي بك الكبير، مع قلق مزمن في الشام جرّاء ما يلقاه من تعسّف الولاة العثمانيين.
صفّي مشروع علي بك الكبير، ثمّ المشروع الوهابي متمثّلاً في الدولة السعودية الأولى. لكن، في مدار القرن التاسع عشر تواصلت نضالات العرب من أجل التحرّر والاستقلال والنهضة، وبرز منها مشروع محمد علي باشا في مصر، ومِثله البايات في تونس، والدايات في الجزائر، ولم يتوقّف الشام عن الغليان، أجهضت أيضاً. وعند خواتيم القرن التاسع عشر كانت نقاط الإضاءة والاستنارة قد انطفأت كلّها، تسلّل الغرب مدنياً من ثغرات التحديث المُتعجّل، ثمّ ختم التسلّل باحتلال عسكري مباشر. سقطت مصر، ثمّ سقطت الجزائر، ثمّ سقطت تونس، ذلك كلّه في القرن التاسع عشر الذي شهد النقيضَين الحادَّين؛ النهضة والاستقلال، ثمّ السقوط والاحتلال.
اتفاقيات الصلح المنفرد بين العرب والدولة الصهيونية عزلت العرب بعضهم عن بعض
وعند مطالع القرن العشرين سقط العرب جميعاً تحت الاستعمار الأوروبي المُسلّح الواضح الصريح، ولو تحت مسمَّيات كاذبة مثل الحماية والانتداب، وعلى امتداد مائة عام، أو أكثر قليلاً، من نهاية الحرب العالمية الأولى في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1918، حتّى اندلاع أخطر حروب العرب مع الصهيونية والغرب في السابع من أكتوبر (2023). مائة عام من النضال ضدّ أشكال الاستعمار كافّة، وأشكال الطغيان كافّة، ثورات مزدوجة ضدّ تحالف الاستعمار مع الاستبداد، مع قوى الانتفاع والمصالح والتبعية. خلالها، كانت فكرة العروبة مُجرّد نقاط وروافد منعزلة بعضها عن بعض على غرار نموذج "مصر للمصريين"، الذي اعتمدته النُخَب الليبرالية الإرستقراطية عند مطالع القرن العشرين. لكن، لم يكد القرن ينتصف حتّى كانت روافد العروبة من المحيط إلى الخليج قد تلاقت، وتعرف بعضها إلى بعض، وتكوّنت منها قوّة تاريخية مستقبلية فاعلة.
الثورات الفلسطينية منذ عقد العشرينيّات من القرن العشرين، بعد سنوات من ثورة 1919 في مصر، نقلت الروح الثورية من شأن قُطري مخصوص بأهل كلّ بلد إلى شأن عربي عام يتشارك فيه العرب جميعاً، وقد بلغت هذه الروح ذروتها مع بلوغ الصهيونية مآربها في العقد الرابع من القرن العشرين، وهو ما انتهى بإعلان الدولة الصهيونية، وترافق معه، بالمقدار ذاته، مدّ ثوريٌّ عربيُّ كاسح. ولكن، بينما واصل المشروع الصهيوني تقدّمه، أخذت روح الثورة العربية تتراجع حتّى وصلت إلى حدّ انعدام النخوة والمروءة العربية في حرب الإبادة الصهيونية الأميركية الغربية ضدّ آخر قلاع المقاومة الفلسطينية وحصونها. حدث ذلك لعاملين كبيرين: اتفاقيات الصلح المنفرد بين دول عربية والكيان الصهيوني، ثمّ الديكتاتوريات العربية في دول ما بعد الاستقلال، التي كانت أشدّ عتواً على الشعوب من عهود الاستعمار، التي نزعت بالتدريج روح المقاومة وحمية النضال وحوافز المبادرة من التكوين الذهني والروحي للشعوب العربية.
دخلت إسرائيل حرب الإبادة الكاملة ضدّ المقاومة الفلسطينية في غزّة وهي على يقين أنّها محميّة حماية كاملة من أيّ ردّات فعل عربية رسمية
اتفاقيات الصلح المنفرد بين العرب والدولة الصهيونية عزلت العرب بعضهم عن بعض، بدءاً بعزل مصر، الشقيقة الكُبرى، ثم توالى مسلسل العزل، وخطورة العزل ليست في أخذ قوّة مصر أولاً من رصيد المواجهة المُسلحة مع المشروع الصهيوني فقط، وليست كذلك في تحييد الدول العربية كافّة بعد ذلك، لكنّ خطورته الكُبرى هي الانقلاب الذي حدث في مفهوم الأمن القومي العربي، فلم يعد الخطر يأتي من الصهيونية، لكن ذهبت مصادر الخطر في اتجاهات بعيدة، ففي قمّة فاس 1981 قرّر العرب أنّ الخطر يأتي من إيران الثورية بعد ثورتها الكبرى 1979، ثمّ بعد ذلك بعشر سنوات، وبعد غزو الكويت، قرّر العرب أنّ الخطر يأتي من داخل الصفّ العربي، وفي مقدّمة تبريرات الغزو الأميركي للعراق مرّتَين (1991 و2003) أنّ العراق يُمثّل خطراً يُهدّد أمن جيرانه. من زيارة أنور السادات القدس 1977 حتّى مبادرات السلام الإبراهيمي، حمل التاريخ العربي تحوّلات ضخمة من النقيض إلى النقيض، من أن إسرائيل هي الخطر على العرب مجتمعين إلى إسرائيل محلّ توافق إجماعي لدى العرب، لهذا دخلت إسرائيل حرب الإبادة الكاملة ضدّ المقاومة الفلسطينية في غزّة وهي على يقين أنّها محميّةٌ حماية كاملة من أيّ ردّات فعل عربية رسمية من شأنها إعاقة مُخطّط الإبادة. وبالفعل، لم يصدر أيّ خطر عربي إلّا حيث وهنت وضعفت قبضة الدولة المركزية العربية، في لبنان وفي شمال اليمن. تتعامل الدولة الصهيونية مع خطط الإبادة وكأنّ العرب لا وجود لهم، وهي على حقّ، فعرب اليوم ليسوا عرب النضال ضدّ أشكال الاستعمار والطغيان كافّة في القرن العشرين.
أما الجماهير العربية ذاتها، فهي تواجه للمرّة الأولى فراغاً وجوديّاً غير مسبوق، يتناقض مع الذاكرة الحيّة، التي تُشكّل ضميرهم الجمعي في محطات فاصلة: 1948، ثمّ 1956، ثمّ 1967، ثمّ 1977، ثمّ 1982، ثمّ في الانتفاض الفلسطيني غير المنقطع منذ انتفاضة الحجارة 1987. هذا الفراغ الوجودي هو الثقب الأسود الذي انزلقت إليه، ثمّ هوت فيه، فكرة العروبة من جذورها رباطاً جامعاً وهُويّةً مشتركة، فقد العرب ما جعل منهم عرباً في التاريخ الحديث، فقدوا همّة التحرّر من القيود التي تثقل ضمير الإنسان من استعباد الخرافات باسم الدين، إلى استعباد القوّة باسم الاستعمار، إلى استعباد المصالح تحت اسم الوطنية الضيقة.