أيَ مستقبل لحكومة المشيشي؟
لم يفض تبادل الرسائل بين أعلى مؤسسات الدولة في تونس، سواء رئاسة الجمهورية أو رئاسة مجلس نواب الشعب أو رئاسة الحكومة، إلى ما ينبئ باقتراب التوصل إلى حل للخروج من الانسداد السياسي الشامل، بسبب امتناع رئيس الجمهورية، قيس سعيد، عن قبول الوزراء الجدد الذين نالوا ثقة البرلمان لأداء اليمين الدستورية، ليصدر إثر ذلك الأمر الرئاسي، والذي في غيابه لا يمكن لهؤلاء الوزراء أن يباشروا مهامهم، طبقا لأحكام الدستور (الفصل 89). وتراوح حالة الانسداد هذه مكانها منذ خمسة أسابيع، متسببة في إحباط مجتمعي، أصبح التونسيون، بمختلف شرائحهم وفئاتهم، يعلنونه في الفضاءات العامة وفي المنابر الإعلامية، وخصوصا عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد ارتفعت حدة الإحباط مع تداعيات جائحة كورونا، وتدهور المقدرة الشرائية، وتفاقم الاحتجاجات الاجتماعية في مختلف أنحاء البلاد.
أمام هذا الوضع، وتدحرج المؤشرات الاقتصادية والمالية إلى مستوى غير مسبوق، لم يسجّل في المشهد السياسي الراهن توافق حول مخرج سياسي، ينهي هذا الانسداد، ويضع خريطة طريق تسهم في وضع ملامحها كل الأطراف، وترسي تونس على شاطئ الأمان، على الرغم من تعدّد المبادرات.
تراوح حالة الانسداد في تونس مكانها منذ خمسة أسابيع، متسببة في إحباط مجتمعي
لم يعد رئيس الجمهورية يكتفي برفض التعديل الوزاري، بل أصبح يطالب برحيل الحكومة برمتها، وبالتحديد رئيسها هشام المشيشي، وذلك ما أكده أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، أحد الفاعلين في تقريب وجهات النظر بين رئيسي الدولة والحكومة. وفي المقابل، لا تنخرط الأغلبية البرلمانية، والتي تمثل الحزام السياسي الداعم للحكومة، في توجّه الرئيس، وهي أغلبية تكونها "النهضة" و"قلب تونس" أساسا علاوة على حلفائهما. بل تؤاخذ هذه الأغلبية صراحة رئيس الجمهورية على عدم تمرير التعديل الوزاري، معتبرة ذلك خرقا للدستور مؤكّدة "أنه من غير المطروح التخلي عن المشيشي وحكومته"، ما يطرح سؤالا محوريا عن مستقبل حكومة المشيشي.
يتسم المشهد السياسي الراهن في تونس بالتحرّك وعدم استقرار التحالفات، إذ لا يمكن الجزم بثبات دعم الحزام السياسي لهذه الحكومة، خصوصا وأن حركة النهضة، كما بدت بعد الثورة، قابلة للتحول في أي اتجاه يضمن مصالحها وبقاءها في منظومة الحكم تحت أي يافطة تفرضها المرحلة، وقد حصل ذلك مع حزب نداء تونس ورئيسه الراحل الباجي السبسي، ومع حزب قلب تونس الذي تحول من منافس "فاسد" إلى حليف استراتيجي، والذي لم يرق للحركة زج رئيسه نبيل القروي من جديد في السجن على خلفية القضية ذاتها التي سُجن بسببها إبّان الانتخابات الرئاسية التي تنافس في دورها الثاني مع الرئيس قيس سعيد. وها هو يغادر السجن ثانية، في ظرف دقيق، بوجود لائحة سحب الثقة من الغنوشي رئيسا للبرلمان، وقد جمعت 103 تواقيع، فيما 109 كفيلة بإبعاده عن دكة هذه الرئاسة. ومن شأن خروج القروي في هذا التوقيت أن يكون طوق نجاة للغنوشي ومن ورائه "النهضة"، على الرغم من أصوات عديدة من خارج الحركة ومن داخلها ما انفكت تدعوه إلى الانسحاب طوعا، معتبرة إياه معطلا للعمل البرلماني بصفة عامة، منذ انتخب رئيسا له.
يتسم المشهد السياسي الراهن في تونس بالتحرّك وعدم استقرار التحالفات
لم يفاجئ الخلاف بشأن التعديل الحكومي الرأي العام، باعتبار أن نبيل القروي كان قد صرّح، بعد نيل هذه الحكومة الثقة، في 2 سبتمبر/ أيلول الماضي، إن "هذه الثقة مشروطة بإجراء تعديل وزاري خلال ثلاثة أشهر على أقصى تقدير، يتم بمقتضاه إبعاد الوزراء المحسوبين على قيس سعيد ورئيسة ديوانه نادية عكاشة"، معتبرا أن "التشكيل الأول للحكومة كان يفرض منحه الثقة تفاديا لحل البرلمان"، الأمر الذي يرغب فيه الرئيس ويتوق إليه أنصاره داخل البرلمان وخارجه.
واليوم، وفي ظل الانسداد الحاصل وانكشاف أسباب التعديل، وموقف سعيد منه، علاوة على اعتبار الأخير أن هشام المشيشي انقلب عليه منحازا لحزامه السياسي في معركة كسر العظام بين الغنوشي وسعيَد، بعيدا عن ذهنه أنه قد يكون كبش الفداء الأقرب للخروج من هذا المأزق السياسي، إذ ترشح معطيات في الكواليس أن حكومة المشيشي تقترب من نهايتها، وآن أوان تجاوزها الى حكومة توافقية يرضى بها رئيس الدولة من جهة، ويحقق بها الغنوشي خطوات معتبرة نحو التقارب معه، من جهة ثانية، شريطة أن تحظى بقبول المنظمات الوطنية، وخصوصا الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد تكون الحكومة الجديدة تحت مسمى حكومة توافقية أو حكومة وحدة وطنية، وذلك بعد إحراز تفاهمات بين كتل برلمانية ورئاسة الجمهورية أو حكومة مخرجات الحوار الوطني المتوقع عقده استحضارا لتجربة الرباعي الراعي للحوار (2013) والحاصل على جائزة نوبل للسَلام، والذي توج بحكومة كفاءات مستقلة ترأسها مهدي جمعة.
حالة عامة من عدم الثقة بين كل المتدخلين والفاعلين في الشأن السياسي
ما يدفع في هذا الاتجاه هذا أيضا التجييش الإعلامي الذي يكاد يجمع على أن حكومة المشيشي قد فشلت في تحقيق التعهَدات التي التزمت بها، وأعطت ما لا تملك، حيث استجابت لمطلبية اجتماعية مجحفة، من دون اعتبار المقدَرات الحقيقية للمالية العمومية في الاستجابة لتلك المطالب. كما لم تستطع معالجة الأوضاع الاقتصادية، بما يمكّن من مزيد جلب الاستثمار والحدَ من تداعيات كورونا.
كل هذه الاحتمالات والسيناريوهات تصطدم بحالة عامة من عدم الثقة بين كل المتدخلين والفاعلين في الشأن السياسي، ما يشكل مشهدا ملتبسا يتسم بغياب الرؤية وعدم الوضوح وتعدّد القراءات، إذ لا يستبعد، في غياب المحكمة الدستورية وعدم تنقيح القانون الانتخابي وانسداد قنوات الحوار بين الرئاسات الثلاث والمنظمات الوطنية، أن يبقى واقع هذه الأزمة الحادة التي تعيشها تونس مفتوحا على كل الاحتمالات، بما فيها رحيل حكومة المشيشي أو حل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية قبل أوانها.