أيّ رجل أنت يا وائل الدحدوح؟
يشدّ الرجل بلحيته غير المشذّبة على يد نجله المسجّى أمامه. يقبِّل اليد، وهو يقبض عليها خشية أن تفلت، ثم يُبعدها قليلاً، وهو ينتحب، ويدنيها من فمه. يقبّلها ثانية، فيُسمع صوت نحيبه هذه المرة أكثر.
يناشدونه الصبر والإيمان والتسليم بالقدر، لكن الرجل الممتلئ الذي يبدو بطيبةٍ فائضة، الذي تُظهره الصور بسترة واقية من الرصاص يعتصم بأملٍ غامض، برقٍ خاطفٍ من السماء، يدٍ إلهية تمتدّ إليه، فيلتفت إلى من يناشده ويقول بصوتٍ خفيض، صوتٍ دامع، إن نجله يشدّ على يده، أو كأنه يشدّ عليها. يقول هذا وهو يقبض برقّة، لكن بتصميم، على أصابع الولد، كأنه يعدّها، كأنه يستقبله وقد خرج قبل قليل من رحم أمّه فيعدّ أصابعه ويتفقّد قدميْه وملامح وجهه، لكن الفتى، واسمُه حمزة، كان قد فارق الحياة، وليس ثمّة معجزاتٌ بعدُ لتعيدَه إلى أبيه.
في غزّة، أو أي مكان آخر في العالم، مع كل أبٍ يُمنح تلك الهدية الإلهية التي لا تقدّر بثمن، بأن يكون أباً، ثمّة تلك اللمسة التي تجعل كل أبٍ في العالم يكاد يدوخ من تلك النشوة الغامضة، عندما يقبض على يد طفله الوليد، فيضغط الأخير على يد الأب كأنه يريد ألا يفلتها، مع ضحكة صافية متقطعة، ومطمئنة من طفل يعرف أنه في جنةٍ آمنةٍ الآن، وأن ثمّة يداً مُحِبة، هي يد الأب، تمسك بيده في هذه اللحظة ولن تفلتها فيما بعد بل طوال الحياة.
إذ يحدُث هذا أمامنا، إذ نرى مراسل قناة الجزيرة، وائل الدحدوح، وهو يقبض على يد نجله القتيل، المسجّى أمامه، يتحرّر الشخص من صفاته التي نعرفُ ويرتفع، فلا يعود نفسه. يتحوّل إلى رمز تتكثف فيه تلك العلاقة الأكثر غموضاً وقوةً بين الأب والابن. يصبح مرآةً يرى فيها الجميع نفسه، فإذا هو الإنسان نفسه وقد تكثفت آلامُه في هذا الرجل، وائل الدحدوح، المنتحِب، بالغ الطيبة، وهو يتلقّى ضربات الموت حيثما ذهب، فلا يعتصم سوى بالرب متضرعاً ومحتسباً.
يا لأوديب الأساطير! تُنشئ يدا الأب والطفل علاقة خاصّة بين الاثنين، سرّية، تمتلك إشاراتها الغامضة بينهما مع التقدّم في العمر، وتتجلى مع الانقلاب الكبير الذي يصبح فيه الابن أباً لأبيه، إذ ذاك يسترخي الأب على السرير وقد قبض على يدِه من كان طفلاً، وتلك لمسة من يقبض على آخر وجود فيزيقي في العلاقة الغامضة بين الأب والابن، فعمّا قليل، سيرحل الأب وقد ترك يدَه في يد طفله.
في معنى من المعاني، يتحوّل وائل الدحدوح إلى رمزٍ لشعبه الذي يتلقى الضربات منذ نحو قرن، فلا يتسلّل إليه يأس من النصر رغم الآلام العظيمة، غير المسبوقة، لرحلة آخر شعوب الأرض نحو التحرّر والتحرير. وفي معنى آخر، يصبح الدحدوح ممثلاً للفلسطينيين، لا رمزاً وحسب، فإذا أردتَ أن تسمع صوت الفلسطينيين، الغزّيين هنا، عليك بصوته، وإذا أردتَ أن تعرف ماذا يريدون عليك أن تعود إليه، وهي مكانةٌ عجزت عنها تشكيلات السلطة في تلك البلاد، من فصائل وتجمّعات، بل منظمّة التحرير نفسها، حيث في رام الله، ثمّة سلطة انبثقت عنها وتختبر للمرّة الأولى محنة التمثيل التاريخي، وهو ينسحب من بين يديها، فلا معنى لأي تمثيلٍ ما لم ينبثق من أتون الألم نفسه، ومن بين الناس أنفسهم، وبالثمن الباهظ الذي يعرفه الفلسطينيون كلهم، وهو الدم الذي يُراق على تراب الوطن أو من أجله. وتلك بلاغة الشعوب وهي ينتقل من حقبةٍ إلى أخرى، وتلك سيرة الفلسطينيين إذ يخرُجون من رمادهم، عنقاء أسطورية تواصل الانبعاث من رمادها. وليست هذه استعارة وحسب، وإن كانت في جذرها، فالانتقالات الكبرى تظلّ أقرب إلى الشعر والاستعارات في حياة الشعوب، وهناك في الواقع ما يعضُد لاعقلانيتها، ما يكسر رأس الواقعية الباردة وحسابات السياسيين، ومشهد وائل الدحدوح وهو يودّع نجله حمزة يؤكّد هذا على نحو أو آخر.
وبعد ذلك، تجد من يحدّثك عن التمثيل واليوم التالي بعد غزّة، وعن سيناريو إسرائيل المفترض بالاستعانة بعشائر غزّة في اليوم التالي لحرب الإبادة. مشهد الدحدوح كافٍ لتنهار اللعبة التي تتعامل مع الفلسطينيين بهذا الاستعلاء العنصري على رؤوس أصحابها، فلا يحكُم البلاد إلا أبناؤها ومن هم من طينة الدحدوح ورفاقه.