أي تغيير قد تشهده إسرائيل؟
لدى إسرائيليين كثيرين حزمة أسباب، يعتبرونها وجيهةً كفايتها، كي يعقدوا الآمال على أن تكون الهزيمة التي مُني بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في انتخابات رئاسة الولايات المتحدة، بمثابة تعبيد الطريق للتخلص من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وحُكمه المستمر منذ أكثر من عقد، خصوصًا أن من شأن تلك الهزيمة أن تسحب آخر ورقة رابحة يمتلكها الأخير في الوقت الحالي، وتشكّل خشبة إنقاذ من محاكمته المرتقبة بشبهات فساد، وتحت وطأة تفاقم الأزمتين، الصحية والاقتصادية، ترتبًا على تداعيات جائحة كورونا. وتحيل جلّ هذه الأسباب، بالأساس، إلى وجود قدر كبير من التبرّم من سياسة نتنياهو الداخلية، أكثر مما تحيل إلى معارضة سياسته الخارجية، إقليميًا ودوليًا، وتكشف عن توازنات قوى سياسية - حزبية يحتدم الجدل فيما بينها بشأن مسائل كثيرة، منها طابع نظام الحُكم المطلوب، وما تواضعنا على تسميته بالصراع العلماني - الديني، والصراع الطائفي .. إلخ.
ولا يُخفى كذلك أن آمالًا كهذه تدغدغ كثيرًا من الأوساط الفلسطينية، سواء عبر التعويل على اصطفاف سياسي إسرائيلي مغاير يتسبّب بتأليف حكومة بديلة لحكومة نتنياهو الخامسة الحالية، أو على نتائج انتخابات مبكرة أخرى. وبعض هذه الآمال يؤدي إلى تربية الوهم بأن ذهاب نتنياهو سيعني تغيير دولة الاحتلال بصورة نوعيّة. وسبق للمفكر عزمي بشارة أن لفت، في تحليله الدلالات التي حملتها "صفقة القرن"، إلى أن آمالًا من هذا القبيل دجّجت، وربما ما زالت تدجّج، رهان العمل السياسي الفلسطيني على "اليسار الإسرائيلي" من انتخابات إلى أخرى، واصفًا إياه بأنه وهم قاتل، نظرًا إلى انعدام أي احتمال بأن يحلّ اليسار الإسرائيلي محل اليمين في سدّة الحكم في الأفق المنظور...
وبالاستناد إلى آخر الوقائع في هذا الشأن، أكتفي بأن أشير إلى ما يلي: حملة الاحتجاج الإسرائيلية الراهنة الرامية إلى تنحية نتنياهو لم تطرح بديلًا سياسيًا لحكمه ولسياسة اليمين المهيمنة على المشهد الإسرائيلي. وتظهر استطلاعات الرأي العام، أخيرا، في إجماع تام، أنه حتى في حال ذهاب نتنياهو سيحل مكانه سياسي يميني آخر، سيحظى بائتلاف حكومي واسع ومستقر على صورته وهواه. ولعلّ من المفارقات المرتبطة بهيمنة سياسة اليمين، والتي توقفت عندها عدة تحليلات، أن مثل هذا الائتلاف اليميني متيسّر لنتنياهو نفسه، ولكنه يشكّل العقبة الأساسية أمامه بسبب علاقاته السيئة مع كل من زعيمي حزبي "إسرائيل بيتنا" و"يمينا" أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينت، وميله إلى تفضيل شركاء ضعاف على غرار رئيس "أزرق أبيض" بيني غانتس.
بمنأى عن حملة تنحية نتنياهو، يُظهر الواقع القائم في دولة الاحتلال أن النزعات التي يمثلها، هو وأنصاره، تحوز على تأييد ثابت في أوساط الجمهور الإسرائيلي العريض. ولم يتآكل هذا التأييد كثيرًا، على الرغم من أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية غير المسبوقة. وأبلغ ما يشير إلى ذلك حقيقة أن نفتالي بينت هو الشخص الآخذ نجمه في الصعود بين أوساط معارضي نتنياهو، وفقًا لنتائج آخر الاستطلاعات.
ظاهريًا، يبدو الصراع كما لو أنه بين بينت ونتنياهو، وأن ما يجري الحديث عنه هو انتخابات شخصية يطرح كل واحد من المرشحين الأساسيين فيها أيديولوجيا منافسة، غير أنه، في العمق، ليس على هذا النحو بتاتًا. وبموجب استنتاج أحد الأساتذة الأكاديميين، بالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي العريض، لن تكون الانتخابات المقبلة لاختيار زعامة جديدة ولغة سياسية جديدة أو لائحة قيَم جديدة، بل لانتخاب مدير عام ينتهج أسلوب إدارة يضمن الاستمرارية السياسية، وحتى لو كان هذا الجمهور يشعر باليأس من نتنياهو، فهو متمسّك بطريقه.
من يرغب في طرح بديل، عليه أولًا أن يستوعب أين تكمن جذور مشكلة سياسة إسرائيل الخارجية، فالمشروع الاستيطاني لا يزال القاسم المشترك بين "اليسار الصهيوني" ومعسكري اليمين والوسط. وما يُعرف باسم "معسكر السلام" مستعد للوصول إلى تسوية مع الفلسطينيين، من منطلق سعيه، بالأساس، إلى الانفصال عن "الخطر الديموغرافي"، على ما ينطوي عليه ذلك من موقفٍ عنصري فاقع.