إبراهيم رئيسي .. أكمِل العبارة التالية
بدا الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، شديد الثقة بنفسه، وهو يدلي بأول تصريحاته في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين. طيلة ساعة كاملة، أراد أن يكون أميناً لتاريخه كأحد الرموز الأكثر تشدداً في معسكر محافظي الملالي، من مواقع شديدة الحساسية في نظام ثيوقراطي قلّما عُرف عنه الاكتراث بالحريات والحقوق والديمقراطية والمساواة: نائب أول لرئيس مجلس خبراء القيادة، رئيس للسلطة القضائية، خليفة محتمل لعلي خامنئي، وقبل هذا وذاك، مكلّف من روح الله الخميني شخصياً بـ"البت" في ملفات "الإرهاب" عام 1988، وهي التي لم تكن تعني في حينها سوى التخلص من سجناء حزب توده (الشيوعي) وجماعة مجاهدي خلق. لم يكن مطلوباً من الرجل بذل جهد كبير في انتقاء عباراته، لا في الشؤون الداخلية ولا في السياسة الخارجية. كان قادراً على أن يقول أي شيء يريده، هو الممتلئ سلطةً مستقاة من رأس الهرم مباشرة، وكل المؤسسات جرى "تطهيرها" من الإصلاحيين. المرشد معه، والحرس الثوري معه، والمخابرات معه والبرلمان والقضاء معه، والأكيد أنه واثق بأن الله معه. رغم كل هذه القوة، سيطر التوتر في البداية على الرجل، ثم راح يختار عباراته في بعض الأحيان، ويرميها مثلما هي بلا فلترة في أوقات أخرى من المؤتمر الصحافي. في المحصلة، وجد قارئ تصريحاته نفسه في حيرة، فبعض المواقف جاءت مكتملة بذاتها، وبعضها الآخر أشبه بالكلمات المتقاطعة التي تحتاج تركيباً ووصلاً واستنتاجات لكي تصبح عبارات سياسية ناجزة المعنى.
من بين ما قاله رئيسي: لقد انتُخبت رئيسا بفضل مشاركة شعبية "كثيفة" كانت "ملحمة"، والوصف الإنشائي الأخير لرئيسي طبعاً بحسب ما نقلته الترجمة. هذا من نوع العبارات التي تحتمل معنيين بدلاً من واحد. إما أن الرجل مقتنع فعلاً بما يقوله، مع أن التصويت هو الأدنى في تاريخ إيران منذ الثورة، هذا إن صدقنا أن 48.8% من الناخبين شاركوا في التصويت فعلاً. أو أن الرئيس الجديد يسرّب فكرة مسبقة عما ستكون عليه ولايته الرئاسية: سنفعل ما نشاء، وسنقول ما نريد، حتى ولو جمعنا في عبارة واحدة أن اللون الأسود هو بالفعل أبيض. من عائلة هذا الصنف من العبارات التي تنبع من ثقة الحاكم المطلق بقوته، قول رئيسي "لطالما دافعتُ عن حقوق الإنسان"، لا بل إنه يجب مكافأته "على دفاعه الطويل عن حقوق الناس". الرجل الذي تقول منظمة العفو الدولية إنه كان عضواً في "لجنة الموت" التي أخفت قسرياً وأعدمت خارج نطاق القضاء بشكل سري آلاف المعارضين السياسيين (يُقال إن عددهم يناهز خمسة آلاف) في سجنَي إيفين وجوهاردشت، قرب طهران، عام 1988، يصف نفسه بأنه رجل حقوق الإنسان. الرجل الذي، بحسب المنظمة إياها، "قاد حملة قمع متصاعدة ضد حقوق الإنسان، شهدت اعتقال مئات المعارضين السلميين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، وأعضاء الأقليات المضطهدة بشكل تعسفي، بصفته رئيساً للقضاء الإيراني" وقبلها قاضياً ومدعياً عاماً، يضع نفسه في مصافّ مناضلي الحريات. اسألوا ضحايا الثورة الخضراء 2009. يشعر رئيسي بثقة إلى درجة أنه رداً على هذه الاتهامات حول تورّطه في إعدامات ثمانينيات القرن الماضي، يكتفي بالقول إن "أولئك الذين يوجهون هذه الاتهامات هم متهَمون".
نوع ثانٍ من المواقف والردود صدرت على لسان الرئيس الإيراني الجديد، أمكن تصنيفها في خانة العبارات التي لا يكتمل معناها الحقيقي إلا بملء الفراغ في ما بين كلماتها. من بينها قول رئيسي إن سياسة إيران الخارجية "لن تتقيد بالاتفاق النووي". اقرأ: أيها العالم بلّوا الاتفاق واشربوا ماءه. "سياساتنا الإقليمية وبرنامجنا الصاروخي قضايا غير قابلة للتفاوض". افهم: المنطقة ستبقى تحت رحمتنا. "لن ألتقي جو بايدن حتى إذا رفع العقوبات". ثم "لا مانع من إعادة العلاقات مع السعودية". لم يقل إن طهران راغبة ولا هي مصرّة ولا مهتمة، ببساطة: "لا مانع". وما حاجة رئيسي بعلاقات دافئة مع السعودية ما دام على مكتبه ثلاث برقيات تهنئة حارة من الإمارات؟