إجهاض الحاضر والمستقبل
يُذكّر اكتشاف الشرطة الأميركية في ولاية تكساس شاحنة مليئة بالمهاجرين المكسيكيين المختنقين، بشاحنات أخرى، عثر عليها في أمكنة مختلفة في العالم خلال السنوات الماضية، أحدثها نهاية عام 2019، في بريطانيا التي يحلم بالوصول إليها مهاجرون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن الصين أيضاً، فقد كان كل من ماتوا في شاحنة التبريد التي وجدت متوقفة في مقاطعة إيسيكس جنوب شرقي بريطانيا صينيين! قبل ذلك بأربع سنوات، وضمن موجة اللجوء العارمة التي شهدتها أوروبا في 2015، وجدت الشرطة النمساوية شاحنةً مطفأة على جانب أحد الطرق السريعة، ليُصدَم العالم بالعثور على 71 جثة للاجئين سوريين وعراقيين، حاولوا الوصول إلى ألمانيا، فوقعوا بين أيدي مهرّبين مجرمين من المجر.
كما نسي الأوروبيون هذه الكارثة، سينسى الأميركيون ما حدث أخيرا، بينما سيتوقفون عند اتهامات حاكم الولاية الجمهوري لسياسات الرئيس بايدن المتراخية مع الحدود المفتوحة، على العكس من سلفه ترامب. ولعل ما سيسرع في النسيان الضجّة المستمرة منذ أسبوع بشأن قرار المحكمة العليا، ذات الأغلبية المحافظة، إلغاء الحماية الدستورية حق المرأة في الإجهاض.
عودة سيطرة تيارات محافظة على مقاليد السلطة، ومنها التشريعية، يشكّل هاجساً مرعباً للقوى المجتمعية الفتية التي لم تعد ترضى بالعودة إلى حظائر التبعية، والاستكانة
نظرياً، لا يبدو أن موضوع القتلى المكسيكيين على صلة بالشأن القانوني في هذه القضية، لكن السؤال عن الأسباب التي تجعل بعض النساء يجهضن ما يحملنه في أرحامهن، وبقليل من توسيع فرجار الرؤية، قد يجلب ترابطاتٍ غير متوقعة؟ لا فائدة من البحث عن إجابات شرعية وقانونية، ولا معنى لتكرار أسباب شخصية ومجتمعية، إذ ثمّة سبب حاضر لا يحيط فقط بهذا الموضوع الشائك، بل بكل القضايا التي نواجهها ونقرأ عنها أو نشاهد الصور الخاصة بها، هو الخوف من المستقبل.
من المفهوم أن يذهب قضاة محافظون تقليديون، وفي تعبير آخر متزمتون، إلى إلغاء قانون يرونه جزءا من واقع غير مستحب بالنسبة لهم، تنتعش فيه الحريات الشخصية، غير المقيدة بالأعراف والدين.
ولا يتوقع من هؤلاء أن يكونوا غير ذلك. وفي المقابل، لا يمكن لمثل هذا الشيء أن يحدُث من دون أن يقاومه الآخرون، أي ليس فقط الشبان والشابات الذين يرون في منع الإجهاض اعتداءً على حرياتهم الشخصية، وتهديداً لأمانهم، بل أيضاً كل التيارات التي تطمح إلى زمنٍ أقلّ تشدّداً وأكثر انفتاحاً، وأيضاً أوسع حريةً، وبلا قيود وسيطرة تفرضها السلطات، أي سلطات، إذ إن ترك هذه المؤسسات تتحكّم بالبشر يعني، فيما يعنيه، أنها ستذهب به إلى زمن موحش فعلاً، ينعدم فيه الهواء النقي، ليصبح المستقبل قاتماً، مخيفاً ومرعباً.
التصوّرات الأولى عن عودة سيطرة تيارات محافظة على مقاليد السلطة، ومنها التشريعية، يشكّل هاجساً مرعباً للقوى المجتمعية الفتية التي لم تعد ترضى بالعودة إلى حظائر التبعية، والاستكانة، بعد أن عاشت عقوداً من الحرية عبر ثورة التقنية والاتصالات، والتي جعلت الجميع يعرف كيف تجري الأمور في العالم، أي أن شيئاً لم يعد مخفياً، وبعد كل هذا التراكم للسيلات العصبية المنفلتة من أي قيد أو أربقة، كيف يتوقع أولئك المحافظون أن تُعاد العقول والأجساد أيضاً إلى بيت الطاعة؟ هل ثمّة بديل مقنع يجعل البشر يعودون إلى أزمنة الماضي بكل ما تحتويه من قواعد ومبادئ إلزامية وتدين جامد؟
التفاتة صغيرة إلى الجهة الأبعد في الكوكب، لا تكشف عن الخوف من المستقبل، بل عن الرعب من الحاضر أيضاً
من دون أن نبحث عن أجوبة، يمكن التوقف أولاً عند الشعور المعمّم عند فئات مجتمعية كثيرة في العالم، يقوم على الخوف من المستقبل، والذي يجعلها لا تفكر بأن تنجب، إذ لا ضمانات فعلية لأن يعيش الأطفال حياة لائقة وكريمة! وهذا ليس توقعاً في الغيب، بل هو تحصيل شعوري ينتج من تراكم الكوارث ذات المنشأ البشري، ألا يؤدّي إلى هذه النتيجة مرور الكوكب بتجارب مرعبةٍ كالحربين العالميتين، وتدمير البيئة الطبيعية للأرض على يد الشركات العابرة للقارّات، وتقليص الحكومات الأموال المخصّصة للرعاية الاجتماعية، وزيادة الضرائب، وارتفاع الأسعار، وغير ذلك؟
التفاتة صغيرة إلى الجهة الأبعد في الكوكب، لا تكشف عن الخوف من المستقبل، بل عن الرعب من الحاضر أيضاً، بعد سلسلة من الحروب الإجرامية ضد الشعوب الطامحة، بالإضافة إلى قمع وحشي ودموي للثورات، وتدمير لحيوات كاملة، من خلال منع التغيير، وهي السياسة التي قادتها أنظمة محافظة أيضاً، تلتقي مصالحها مع المحافظين الآخرين في العالم، ما يجعل الهرب من هذه الجحيم التي صنعتها، حلماً للناس، يذهبون إليه، حتى وإن غامروا صوبه عبر شاحنة يمكن أن تتحوّل إلى تابوت.
هل هو أمر رومانسي أن ترتبط الأشياء كلها ببعضها في العقل هكذا؟ ربما يجيبنا عن ذلك صلاح جاهين، حين قال في إحدى رباعياته: "لو فيه سلام في الأرض وطمان وأمن/ لو كان مفيش ولا فقر ولا خوف وجُبن/ لو يملك الإنسان مصير كل شيء/ أنا كنت أجيب للدنيا ميت ألف ابن/ عجبي".