قراءة في موقف إدارة بايدن من الهجوم الإسرائيلي المحتمل على إيران
تواجه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مأزقاً صعباً في إطار مساعيها لتجنّب اندلاع مواجهة مفتوحة بين إسرائيل وإيران قد تنجرّ الولايات المتحدة إليها، وذلك قبل أقل من شهر على الانتخابات الرئاسية والتشريعية، في وقت تعمل فيه على تعزيز قوة الردع الإسرائيلي في المنطقة ضد إيران وحلفائها. وقد شنّت إيران في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2024 هجوماً صاروخياً باليستيّاً على إسرائيل شمل إطلاق أكثر من 180 صاروخاً. وأظهرت صور أقمار صناعية أضراراً لحقت بقاعدة نيفاتيم الجوية، أحد أهداف الهجوم، ولهذا هدّدت إسرائيل برد قوي. وتولت الولايات المتحدة مهمة قيادة تحالف دولي وإقليمي للتصدي للهجوم الإيراني، وهو الدور الذي اضطلعت به أيضاً في نيسان/ أبريل 2024 حين هاجمت إيران إسرائيل بمسيرات وصواريخ "كروز" ردّاً على قصف الأخيرة مقر قنصليتها في دمشق وقتل عدة مسؤولين إيرانيين فيها. وهدّد مسؤولون أميركيون بـ "عواقب وخيمة" على إيران، من دون تحديدها، مع التأكيد على ضرورة تجنّب ضربات إسرائيلية كبيرة جدّاً قد تشعل حرباً إقليمية.
إخفاق المقاربة الأميركية
على مدى عام كامل تقريباً، فشلت إدارة بايدن في دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى القبول بوقف العدوان في قطاع غزة، لتجنّب اتساع دائرة المواجهة. ولم تفلح جهود الردع الأميركية، المتمثلة في إرسال قدرات عسكرية كبيرة، برّية وجوية إلى المنطقة في ردع حلفاء إيران في لبنان واليمن والعراق عن شنّ هجمات صاروخية وإرسال طائرات مسيرة وسفن عبر البحر الأحمر إلى إسرائيل، إسناداً لغزّة. فعلى العكس، وجدت القوات الأميركية نفسها في أحيان عديدة في صراع مباشر مع الحوثيين في اليمن والفصائل الشيعية في العراق، وتعرّضت قواعد لها لهجمات في العراق وسورية والأردن، وسقط في بعضها جنود أميركيون قتلى وجرحى. كانت الجبهة اللبنانية أكثر ساحات الإسناد لقطاع غزة تأثيراً. وقد شكل نزوح عشرات الآلاف من المستوطنين عامل ضغط على حكومة نتنياهو والجيش الإسرائيلي. غير أن نجاح إسرائيل في منتصف أيلول/ سبتمبر 2024 في اختراق حزب الله وضرب أنظمة اتصالاته؛ عبر تفجير آلاف أجهزة "البيجر" والاتصال اللاسلكي التي يستخدمها عناصره في لبنان وسورية، حيث قتل العشرات وجرح آلاف، وصولاً إلى تصفية قادة كبار في الحزب، بمن فيهم أمينه العام حسن نصر الله، والهجوم المدمّر على أجزاء واسعة من لبنان، بما في ذلك بيروت، أدّى ذلك كله إلى دخول إيران إلى المواجهة، وإن كان ذلك بطريقةٍ محسوبةٍ لا تؤدّي إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل.
ونتيجة ذلك، تتعرّض استراتيجية إدارة بايدن، التي قامت على محاولة تجنّب اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل وإيران، لضغوط شديدة الآن، خصوصاً إذا لم تتمكن من ضبط حليفها الإسرائيلي الذي يهدّد برد صارم وكبير. وفي المقابل، تهدّد طهران باستهداف البنى التحتية الإسرائيلية بهجمات مدمّرة، ما قد يجر الولايات المتحدة إلى الصراع على نحو مباشر. ويتوقع مسؤولون إسرائيليون دعماً أميركيّاً ودوليّاً وإقليميّاً في حال نشوب صراع مع إيران؛ ما يعني تورّط واشنطن.
تتعرّض استراتيجية إدارة بايدن، التي قامت على محاولة تجنّب اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل وإيران، لضغوط شديدة
وبناء على تجربة السنة التي مضت، تبقى قدرة إدارة بايدن على ضبط سلوك إسرائيل محل شكوك كبيرة؛ إذ إنها تطلبُ الأمر وتفعل نقيضه عبر استمرارها في تسليح حكومة نتنياهو اليمينة المتطرّفة، وتقديم كل أشكال الدعم العسكري والاستخباراتي والسياسي والدبلوماسي لها. ولم يكتفِ مسؤولو الإدارة الأميركية، بدءاً من الرئيس نفسه، بالتباهي بدور القوات الأميركية في التصدّي للهجوم الإيراني أخيراً، بل أرسلوا مزيداً من القوات إلى المنطقة دعماً لإسرائيل. وتشمل القدرات الأميركية العسكرية في المنطقة حاملة طائرات "يو إس إس أبراهام لينكولن" مع مجموعتها المقاتلة، من مدمرات وطرادات، مجهزة بأنظمة دفاع "إيجيس" القادرة على إسقاط الصواريخ الباليستية، فضلًا عن طائرات مقاتلة وقاذفات. وقد أعلن البنتاغون في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 أن وزير الدفاع لويد أوستن أمر بإرسال "بضعة آلاف" من القوات الإضافية لتعزيز القوات الأميركية البالغ عددها نحو 40 ألف جندي في المنطقة. كما أمر أسراب الطائرات التي كانت على وشك المغادرة البقاء في المنطقة مع انضمام أخرى لها. وأعلن أن حاملة الطائرات "يو إس إس هاري ترومان" ستنضم لحاملة الطائرات لينكولن في المستقبل القريب.
سيناريوهات الردّ... البحث عن نهج متوازن
لا تعمل إدارة بايدن هذه المرّة على إقناع إسرائيل بالامتناع عن الرد على الهجوم الإيراني، وهو ما يمثل اختلافاً بيّناً عن سلوكها في نيسان/ أبريل 2024، عندما شجّعت إسرائيل على عدم الردّ أو الاكتفاء بهجوم رمزي بعد نجاح التحالف الإقليمي والدولي الذي قادته الولايات المتحدة حينها في التصدّي للهجوم الإيراني. بدلاً من ذلك، ترى إدارة بايدن أن من حقّ إسرائيل الردّ الآن؛ لأن حجم الهجوم الإيراني الأخير كان أكبر وأخطر (رغم أن واشنطن تصرّ على أنه فشل هذه المرّة أيضاً في إحداث أضرار كبيرة). ومع ذلك، تأمل أن تتبنّى إسرائيل نهجاً مدروساً في الردّ من دون دفع الأوضاع نحو مواجهة كبيرة.
للتأكّد من ذلك، زار قائد القيادة الأميركية الوسطى (سنتكوم)، الجنرال مايكل كوريلا، إسرائيل، وبقي فيها أياماً عدّة من أجل إجراء "تقييم للوضع [...] تمحور حول المسائل الأمنية الراهنة، مع التركيز على إيران وعلى الجبهة الشمالية" مع حزب الله اللبناني. وأبقى أوستن خطوط اتصال مفتوحة مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت. ومع ذلك، تخشى إدارة بايدن أن يستغل نتنياهو التعزيزات العسكرية الأميركية في المنطقة والضربات الأخيرة التي تعرّض لها حزب الله، لشنّ هجوم كبير على إيران يورّط واشنطن فيه.
تبدو إدارة بايدن كأنها فقدت السيطرة تماماً على حكومة نتنياهو، بعد أن ساهمت هي نفسها في دعمها طوال العام الماضي
تنحصر الخيارات الأميركية حالياً في الضغط على إسرائيل من أجل ردٍّ محسوبٍ ضد طهران، مع تقديم إغراءات لها إن التزمت بشروط تقبلها واشنطن. وحسب تقارير إعلامية، عرضت إدارة بايدن على إسرائيل خلال المفاوضات معها حول طبيعة الردّ على الهجوم الإيراني "حزمة تعويضات"، في حال امتناعها عن مهاجمة أهداف معيّنة في إيران. وتشمل الحزمة ضماناتٍ كاملة للحماية الدبلوماسية الشاملة، إضافة إلى مزيدٍ من صفقات الأسلحة، إلا أن الردّ الإسرائيلي، حسب التقارير نفسها، رفض تقديم أي التزاماتٍ لواشنطن.
تضغط واشنطن بشدة على نتنياهو من أجل ألا يستهدف المنشآت النووية الإيرانية، أو منشآتها النفطية والغازية؛ لأن هذا يزيد احتمال انجرار واشنطن إلى مواجهة كبيرة قبل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكن بعض الإسرائيليين يرون أن هناك فرصة قد لا تتكرّر للقيام بذلك، خصوصاً مع الوجود العسكري الأميركي الكبير في المنطقة، والضعف الذي لحق بحلفاء إيران، ولا سيما حزب الله في لبنان، وهذا ما دعا إليه علناً رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، إذ قال: "لدى إسرائيل الآن أعظم فرصة لها منذ 50 عاماً لتغيير وجه الشرق الأوسط. لدينا المبرّر. لدينا الأدوات. الآن بعد أن أصيب حزب الله وحركة حماس بالشلل، أصبحت إيران مكشوفة".
وفيما يتعلق باحتمالية أن تستهدف إسرائيل البنية التحتية لقطاع الطاقة الإيرانية، ألمح بايدن إلى أنه يعارض ذلك أيضاً، خصوصاً مع ارتفاع أسعار النفط عالميّاً جرّاء التوتر في المنطقة؛ إذ قال في 4 تشرين الأول/ أكتوبر: "لو كنت مكانهم (إسرائيل)، لفكرت في بدائل أخرى غير ضرب حقول النفط". مع ذلك، من المحتمل أن يكون لدى إدارة بايدن نفوذ أكبر فيما يتعلق بنوعية الردِّ الإسرائيلي وحجمه مما كان لديها في الحرب على قطاع غزّة ولبنان؛ إذ إن حرباً مع إيران تتطلب تعاوناً عسكرياً واستخباراتيّاً أميركيّاً أكبر بكثير من الحرب مع حركة حماس وحزب الله.
خاتمة
تبدو إدارة بايدن كأنها فقدت السيطرة تماماً على حكومة نتنياهو، بعد أن ساهمت هي نفسها في دعمها طوال العام الماضي من خلال الدعم اللامحدود وغير المشروط الذي قدّمته، ولا تزال تقدّمه لها في عدوانها على قطاع غزّة ولبنان. وتواجه الإدارة معضلتين؛ تتمثل الأولى في أنها باتت منذ انسحاب بايدن من السباق الانتخابي الرئاسي في تموز/ يوليو 2024 غير قادرة على التأثير في القرار الإسرائيلي في وقتٍ تخشى نائبته كاميلا هاريس، المرشّحة الديمقراطية للرئاسة، أن يجرّ نتنياهو واشنطن إلى حرب إقليمية قد تكلفها خسارة الانتخابات الرئاسية، خصوصاً إذا سقط فيها قتلى وجرحى أميركيون. في المقابل، لا تريد إدارة بايدن - هاريس أن تفتح مجالاً للابتزاز الجمهوري واتهامها بالضعف والتخلي عن إسرائيل. ومن اللافت تجنّب بايدن تأكيد أو نفي ما إذا كان نتنياهو يحاول التأثير في الانتخابات الرئاسية لصالح ترامب، وكذلك تجنّب هاريس تأكيد ما إذا كان نتنياهو "حليفاً قريباً وحقيقياً للولايات المتحدة"، أم لا، معتبرة أن التحالف الحقيقي هو بين "الشعبين الأميركي والإسرائيلي". وتتمثل المعضلة الثانية في أن ثمَّة من يرى في واشنطن، وحتى في إدارة بايدن نفسها، أن نتنياهو نجح في تغيير "ميزان القوى في المنطقة لسنوات مقبلة"، ومن ثمَّ، باتت قدرة واشنطن على التأثير فيه محدودة؛ لأنه بات يتعامل معها بمنطق المنتصر على الأعداء المشتركين للولايات المتحدة وإسرائيل، وأثبت أن مقاربته في رفض ضغوط بايدن من أجل القبول بحلول سياسية كانت "محقّة"؛ ما يعني أن واشنطن بات عليها أن تجاري نتنياهو أكثر مما كانت تفعل، وقد تجد نفسها في نهاية المطاف حيث كانت تتجنّب كل الوقت، أي التورّط في حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط.