إدواردو غاليانو يُعيدنا إلى درّية شفيق
لم يكن الذي أعادنا إلى طبيعة الأجواء البرلمانية في مصر 1951 هو أُستاذ القانون الدستوري السابق، ورئيس البرلمان السابق، علي عبد العال، ولا هو رئيس البرلمان الحالي حنفي الجبالي، ولا الكاتب محمد سلماوي، ولا الفنّان محمد عبلة، ولا أيّ أحد من أصحاب شهادات الدكتوراه من السوربون في أفرع القانون الدولي، وهم أكثر من عصافير النيل عدداً وعدّة، وخاصّة في المُلمّات، التي تبدأ من تغيير الدستور أو ترميمه أو إضافة طابقين لمبناه ومعناه ليلاً... بل هو الكاتب الكبير إدواردو غاليانو حينما تذكّر دريّة شفيق، في مقولة جميلة من أسبوعَين في صحيفة أخبار الأدب، تحت عنوان "النساء... تاريخٌ مُذهل تجاهله العالم الذكوري" (ترجمة أحمد عبد اللطيف)، خصّ درّية شفيق بأول مقولة: "في القاهرة، عام 1951، اقتحمت 1500 سيدة البرلمان، بقين هناك لعدة ساعات، ولم تكن ثمة طريقة لإخراجهن، كن يعلن أن البرلمان أكذوبة، لأن نصف المجتمع لا يحق له التصويت ولا الترشح في الانتخابات، رداً عليهن، صرخ الشيوخ ممثلو السماء، بأصوات عالية: (التصويت يحط من قدر المرأة ويناقض الطبيعة)".
أمّا القادة القوميّون، ممثلو الوطن، فوصفوا المطالبات بحقّ الاقتراع النسائي خيانةً للوطن. كان ثمن هذا التصويت غالياً، لكنّه تحقّق في المدى الطويل، وكان واحداً من انتصارات اتحاد بنت النيل. حينها، منعت الحكومة أن يتحوّل إلى حزب سياسي، وحُكم على دريّة شفيق، الرمز الحي للحركة الوطنيّة، بالإقامة الجبرية في بيتها. لا شيء غريباً هنا، أغلب النساء المصريات كان محكوماً عليهن بالإقامة الجبرية، لم يكن باستطاعتهن التحرّك من دون إذن الأب أو الزوج، وكثيرات منهن لم يكنّ يخرجن من البيت إلا في ثلاث مناسبات؛ الحج، الخروج إلى زفافها وإلى بيت زوجها، والخروج لدفنها. أمّا ما لم يُكمله إدواردو غاليانو، في موضوع دريّة شفيق ونهايتها المأساوية بشكل ما، فأمر، بالطبع، لم يكن يخصّه، خاصّة أنّ المقال هو في الأصل عن النساء في العالم أجمع، وخاصّة وهنّ أمام التجاهل الذكوري مثل كليوباترا وشهرزاد وحتشبسوت... إلى آخره.
أحياناً، تأخذك الكتابة الجميلة إلى طرقات أخرى، ودعنا الآن من أنّ درّية شفيق مع 1500 سيدة استطعن أن يدخلن البرلمان خلسةً من تحت إبطَي الجبالي، أو من عبد العال، بالخيال فقط، وحرس البرلمان أعطى لكلّ سيدة وردة أثناء دخولهن (خيالاً أيضاً)، ولم تخرج خمس منهن أو عشر إلى "الكراكون"، أو إلى قسم "غاردن سيتي"، أو اختفين قسريّاً شهرين، أو تمّ تحويل دريّة شفيق نفسها إلى مستشفى العباسية للأمراض النفسية، وظلّت هناك سنواتٍ، كما حدث للمترجم والكاتب إسماعيل المهدوي في أيام جمال عبد الناصر، ولم تلفّق تهمةٌ لدرّية شفيق بحيازة مخدّرات أو مصادرة قصرها، لاحظ أنّ المَلَكيّة قامت تجاهها بالواجب الخفيف جدّاً، كما سنرى، وقامت حكومات ثورة يوليو/ تموز (1952) مع درّية شفيقة بتكملة الواجب على أكمل وجه، حتّى انتحارها في سنة 1975، بإلقاء نفسها من بلكونة منزلها (لاحظ، دائماً هناك بلكونة تطاوع المُخرِج).
لم يكن اقتحام البرلمان في سنة 1951، هو أول تمرّد لدرّية شفيق في ظلّ الحكومات الملكية، ففي 1928 أبحرت مع إحدى عشرة فتاة مصرية من الإسكندرية إلى أوروبا، ورغبت هي بالذات في دراسة الفلسفة، وهذا، من قرن إلا قليلاً، وهي ابنة الحسب والنسب، فعارض المكتب المصري في باريس ذلك، فكتبت إلى الدكتور طه حسين، ووافقت الوزارة على دراسة درّية للفلسفة وعلم الاجتماع والأمراض العقليّة، بل، بدأت في كتابة الشعر، ذلك كلّه في ظلّ الحكومة المَلَكيّة في 1928، ثمّ قرّر المكتب المصري إنهاء المنحة لدرّية شفيق وإعادتها إلى مصر، فقرّرت هي أن تواصل الدراسة على نفقتها الشخصية، واكتفتْ بوجبة واحدة، فتراجعت الحكومة وأعادت إليها المنحة (ذلك كلّه قبل حادثة البرلمان في 1951)، حتّى حصلت على الليسانس بمرتبة الشرف في 1932، ثم عادت إلى باريس حتّى حصلت على الدكتوراه في 1940، إلّا أنّ أحمد أمين رفض تعيينها في الجامعة، بحجّة أنّها امرأة جميلة، وبعد ثورة ضبّاط يوليو (1952)، بسنتين فقط (ضربة استباقية يا معلم وتقليم أظافر)، تمّ تحديد إقامتها الجبرية في منزلها حتّى انتحارها في سنة 1975، لأنّها اعترضت على عدم تمثيل النساء في أول دستور للثورة فقط، ولم تقتحم برلمان الثورة حتّى بكلبها الصغير، فماذا (خيالاً) كان سيحدث لها لو دخلت برلمان 2024؟ لو فكّرت أن تدخل، اعتراضاً، بيافطة ورقية؟