إسرائيل إلى زوال
ليست هذه المرّة الأولى التي نقرأ فيها أن إسرائيل إلى زوال، لو استمرّت على صيغتها التي وُجدت عليها منذ قامت دولتها على أرض فلسطين التاريخية، فهناك مفكّرون كثيرون تنبأوا بزوالها، واستنبط آخرون نهايتها من نصوص دينية توراتية وقرآنية، وصدرت دراساتٌ عن مراكز بحثية رصينة عن أسباب نهاية إسرائيل. وبعيداً عمّا هو غيبي أو قراءة للمستقبل، يقول الواقع إن إسرائيل كيان استعماري محتلّ، حافظ ويحافظ على وجوده بالاعتماد على القوّة، وبدعم سخيٍّ مادي وعسكري من الدول الغربية التي ما زالت ترعاه وتوفر له المناخ الذي يساعده على تمديد وجوده الاصطناعي في المنطقة. وقد أظهرت تجربة الأشهر الثلاثة الماضية من الحرب على غزّة أنه لولا الجسر الجوي الأميركي لإمداد إسرائيل بالسلاح والذخيرة، والدعم المادي والدبلوماسي الغربي غير المشروط، لتغيرت معطياتٌ كثيرة على أرض الواقع، فاستمرار وجود إسرائيل مرتبط بهذين العامليْن، الاستعمال المفرط للقوة لقمع الفلسطينيين، والدعم الغربي المادي والعسكري غير المشروط لتوفير أمن اصطناعي لكيان اصطناعي.
والمفارقة أن استمرار هذا الوضع، الذي بدونه لا يمكن لإسرائيل أن تستمرّ، هو في حد ذاته أحد أسباب استمرار خطر زوالها، لأن إرادة الشعوب ترفض كل أشكل الخضوع، وبالأحرى أن يتم ذلك بالقوة والعنف، كما تفعل إسرائيل مع الفلسطينيين، كما أن استمرار الدعم الغربي غير مضمون، لارتفاع كلفته المادية والعسكرية، وكلفته السياسية والأخلاقية التي باتت موضوع نقاش كبير في أوساط الرأي العام الغربي الذي بدأ يستعيد وعيه جرّاء الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
وكيف ما كانت نتيجة حرب إسرائيل الإجرامية اليوم ضد الفلسطينيين، فإن الخاسر الأكبر منها ستكون إسرائيل، لأن استمرار وجودها، في الحالتين، يعني لجوءها إلى مزيد من العنف والقوة لفرض سيطرتها، ومزيداً من الدعم الغربي لتوفير القوة لتنفيذ سياساتها، بالتالي استمرارها داخل غرفة الإنعاش نفسها التي وُضعت فيها منذ زرعها الاستعمار البريطاني في المنطقة.
ولا حاجة إلى التذكير بأنه طوال وجودها في المنطقة، لم تفعل إسرائيل سوى زرع بذور زوالها، وكل يوم يمرّ يقرب من نهايتها كياناً مصطنعاً في بيئة تربته تلفظ وجوده. وخلال العقود الماضية، ضيّعت كل الفرص التي أتيحت لها لإنهاء صراعها مع الفلسطينيين، انطلاقاً من حلّ الدولتين، الذي كان يعدّ حلاً سياسياً ممكناً، ودعمته دول عديدة، بما فيها الدول العربية التي أنهى كثيرٌ منها صراعه مع إسرائيل، بل ودخل معها في تطبيع سياسي واقتصادي. لكن هذا الحل لم ير النور، لأن كل حكومات إسرائيل عارضته، وعرقلته أكثر 30 سنة من خلال تشجيع الاستيطان واحتلال مزيد من الأراضي الفلسطينية التي ستقام فوقها الدولة الفلسطينية.
رغم أن المقاومة الفلسطينية لم يتأتَّ لها ما تأتّى لنظيرتها الجزائرية من دعم ومساندة ومدد من الخارج، إلا أن روحها سوف تنتصر طال الزمن أم قصر
أما الحل الآخر الذي كان متاحاً، رغم مثاليته، وهو الذي يتبنّاه أنصار السلام، فهو على طريقة جنوب أفريقيا، أي إلغاء كل أشكال الميز العنصري داخل دولة إسرائيل، والسماح للفلسطينيين بالتمتع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها اليهود، بما في ذلك حق العودة، وحق التصويت على أساس مبدأ "رجل واحد صوت واحد" الذي رفعه نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وأدى إلى قيام دولة واحدة متعدّدة لجميع سكانها من جميع الديانات والأصول. ولا صدى لهذا الحل في إسرائيل التي تخاف أن يفتح الباب لهيمنة عربية على كيانها الذي تريده أن يبقى يهودياً عبرياً خالصاً. وقد أظهرت الانتخابات داخل إسرائيل أن المكون العربي، الذي يشكله "عرب 1948"، أصبح قادراً على أن يشكّل قوة حاسمة داخل "الديمقراطية" الإسرائيلية، وبدلاً من أن يشجّع هذا المعطى على مزيد من انفتاح الدولة العبرية على محيطها العربي الفلسطيني، أدّى إلى تطرّف أكبر داخل المجتمع الإسرائيلي الذي أصبح منذ سنوات مختطَفاً من أحزاب يمينية دينية متطرّفة تقوده إلى الهلاك المُبين. وبعد الحرب الإجرامية على غزّة، أصبح من المستحيل تطبيق هذا الحل، على الأقل في القريب المنظور، لأن الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين أظهرت أسوأ ما في داخل الإسرائيلي من حقد على كل ما هو فلسطيني وعربي. وعلى الطرف الآخر، تركت آثاراً عميقة في نفسية الفلسطيني الذي يصعب عليه النظر في وجه القاتل والمجرم الذي يريد تدميره، بل ومحوه من على الأرض، فكيف سيقبل بالتآخي معه داخل الدولة الواحدة الموحّدة؟!
لذلك، سوف تفرض الحلّ الأخير والحتمي حتمية تطوّر الأحداث ومسار التاريخ، وهو الحل على الطريق الجزائرية، أي سوف يأتي اليوم الذي يضطرّ فيه المستوطنون والمحتلون الإسرائيليون إلى حزم حقائبهم والانسحاب تحت جنح الظلام، لأن أرض "الحليب والعسل" التي وعدتهم بها الإيديولوجيا الصهيونية تحوّلت إلى جحيم تحت أقدامهم. والحرب الجارية اليوم في غزّة، بكل مآسيها التي تطاول المدنيين العُزّل، تظهر ثلاثة أشياء تسير في اتجاه تأكيد فرضية الحل على الطريقة الجزائرية، من خلال مقارنات تاريخية مع الحالة الجزائرية.
أولاً، احتلت فرنسا الجزائر 130 سنة، وعكس ما يتصوّر كثيرون، لم يكن الاستعمار الفرنسي يقلّ بشاعة وظلماً وإجراماً عن الاستعمار الإسرائيلي فلسطين، والثورة الجزائرية المسلحة التي أدّت إلى الاستقلال لم تندلع إلا عام 1954، واستمرت ثماني سنوات استشهد فيها مليون ونصف مليون جزائري، اضطرّت فرنسا بعدها للانسحاب من الجزائر تحت ضربات مقاومتها المسلحة، وحزم المعمّرون والمتعاونون معهم من الجزائريين حقائبهم وأُعلن استقلال الجزائر عام 1962. وما نشهده في غزة منذ هجوم 7 أكتوبر هو بداية شرارة حرب التحرير الفلسطينية بعد أكثر من 75 سنة من الاحتلال، وأمام بسالة المقاومة الفلسطينية وصمود الشعب الفلسطيني رغم ارتفاع عدد شهدائه وضحاياه، ما زالت إسرائيل عاجزة عن تحقيق أي نصر سياسي أو استراتيجي، وهي تفقد كل يوم صورتها أمام العالم، وسوف يأتي اليوم الذي تعلن فيه هزيمتها السياسية أمام ضربات المقاومة وصمود شعبها الجبار.
تعلمنا المقاومة الفلسطينية كل يوم أنها تستمد قوّتها من صمود شعبها، ومن بسالة مقاوميها الأبطال وتضحياتهم
ثانياً، أدّت ضراوة حرب التحرير الجزائرية إلى حدوث انشقاقاتٍ عميقةٍ داخل بنية السلطة الاستعمارية الفرنسية، فانقلب جنرالاتُها الاستعماريون ضد سلطتهم السياسية في باريس عام 1958، وفرضوا عودة زعيم تحرير فرنسا من النازية الجنرال ديغول إلى الحكم، فجعل هذا الأخير من القضاء على الثورة الجزائرية أولويته الأساسية عبر إرسال قرابة مليون جندي إلى الجزائر، والاستعانة بطيران الحلف الأطلسي، وبناء سياج شائك على طول الحدود مع المغرب وتونس لمنع دخول السلاح وتسلل المقاتلين من الجهتين، واتساع عمليات القتل والاعتقال في صفوف الجزائريين مع ما كان يرافق ذلك من تعذيب وإهانة وإذلال لكسر روح المقاومة الجزائرية. وأعلن برنامجاً اقتصادياً لإغراء السكّان المدنيين وطمأنة المستوطنين، لكن كل هذه الإجراءات زادت الحرب ضراوة مع ارتفاع في الخسائر العسكرية في صفوف الفرنسيين، ما دفع ديغول إلى الاعتراف بحقّ الجزائريين في تقرير مصيرهم، فانقلب عليه جنرالات حربه وأعلنوا تأسيس دولتهم المستقلة في الجزائر، فما كان عليه سوى سحق تمرّدهم والمضي في قراره بالاعتراف بحقّ الجزائريين في تقرير مصيرهم، ليس حبّاً فيهم، وإنما خوفاً على مصير فرنسا التي أصبحت منقسمةً على نفسها، وأصبح إنقاذها أولوية على إنقاذ مستعمرتها. وعندما ننظر إلى ما يجري اليوم من تخبّط وانقسامات داخل الكيان الصهيوني، بين مكوّنات بنيته السياسية وبين سياسييه وجنرالات حربه، ومزايدات مستوطنيه ويمينه المتطرّف، فكل هذه مؤشّراتٌ على مستوى تصدّع البيت الداخلي لهذا الكيان، ووجود شخص انتهازي مثل بنيامين نتنياهو على رأسه، بعقلية شمشون الانتحارية، همّه الوحيد من إطالة الحرب إنقاذ نفسه، يجعل الإسرائيليين في حاجةٍ ماسّة إلى شخصية ديغول إسرائيليٍّ لإنقاذ كيانهم قبل أن ينهار عليهم من الداخل!
ثالثاً، حرب تحرير الجزائر حسمتها قوة إرادة الشعب الجزائري ومقاومته التي تحوّلت إلى رمز لكل حروب التحرير في العالم، فطوال ثماني سنوات من التضحية، قدم الجزائريون درساً كبيراً للتاريخ يشهد بأن إرادة الشعوب لا يمكن هزمُها مهما طال الظلم واشتدّ، وبأنها هي التي سوف تنتصر في النهاية. وفي الحالة الفلسطينية، تعلمنا المقاومة الفلسطينية كل يوم أنها تستمد قوّتها من صمود شعبها، ومن بسالة مقاوميها الأبطال وتضحياتهم، وهم يسطّرون ملاحم في الشجاعة والصمود والتضحية سيكتُبها تاريخ التحرير الفلسطيني والنضال الإنساني عموماً بأحرف من ذهب. وأمام هذه القدرة الكبيرة على الصمود، رغم أن المقاومة الفلسطينية لم يتأتَّ لها ما تأتّى لنظيرتها الجزائرية من دعم ومساندة ومدد من الخارج، إلا أن روحها سوف تنتصر طال الزمن أم قصر، لأنها زرعت في الفلسطيني والعربي الأمل بأن عمر الظلم قصير، وبأن الظالم مهما طغى سوف يأتي اليوم الذي ينكسر فيه ومصيره إلى زوال.