إسرائيل تربح أكثر في علاقاتها العربية
من الطبيعي أن تقوم العلاقات بين الدول على المصالح والمنافع المتبادلة؛ السياسية والعسكرية والاقتصادية. وعادة ما تكشف مجالات التعاون وما يقدّمه كل طرف للآخر عمّن يتحكّم في مسار العلاقات، ومن الذي يستفيد أكثر من هذا التعاون. وإذا طبّقنا هذا المقياس على العلاقات العربية الإسرائيلية، ونظرنا إلى ما تقدّمه إسرائيل، أو تخطط لتقديمه مستقبلاً للدول التي تقيم معها علاقات دبلوماسية، أو التي تحافظ على علاقتها معها ضمن أطر سرّية، وقارنّاه بما تقدّمه الدول العربية، أو تخطّط لتقديمه في المقابل لإسرائيل، سنكتشف حجم الخلل الكبير في ميزان العلاقة بين هذه الدول مجتمعة وإسرائيل.
تكشف دراسات مراكز الأبحاث الإسرائيلية، والتقارير التي تنشرها الصحف العالمية عن مجالات التعاون بين إسرائيل والدول العربية، أن إسرائيل كانت دائماً صاحبة اليد الأعلى، ففي الغالب تكون إسرائيل من يحدّد هذه المجالات بما يتوافق مع أمنها القومي، ومصالحها السياسية والاقتصادية. وغالباً تكون هي المستفيد الأكبر، علاوة على ذلك، ففي كل مجال تعاون تكنولوجي أو أمني، تكون الدول العربية هي من يستفيد من التكنولوجيا الإسرائيلية، وهو ما يظهر جلياً إذا ما نظرنا في مجالات التعاون بين إسرائيل وكل بلد عربي منفرداً.
حظي التعاون مع المغرب مثلاً باهتمام معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي؛ إذ كتبت عنه الباحثة في المعهد، مور لينك، مقالاً يتناول الفرص الاقتصادية في العلاقات المغربية الإسرائيلية، ركزت فيه على مجالات التعاون الثنائي، الذي يتقدمه التعاون الأمني وأهميته الاستراتيجية، بحكم ما لدى إسرائيل من خبرة، وتقدّم تكنولوجي ومعلوماتي كبيرين، وهو ما يدفع أغلب الأطراف العربية التي تتعاون مع إسرائيل، سواء التي تقيم معها علاقات معلنة، أو التي تقيم علاقات سرّية، إلى الاستفادة من خبراتها في هذا المجال، على الرغم مما يمكن أن يؤدّي إليه من إضرار بالأمن القومي لهذه البلدان. وإلى جانب المجال الأمني، تشدّد الكاتبة على أهمية أن يستوعب المغرب التقنيات والمعارف الإسرائيلية في مجال الزراعة. فطبقاً لكلامها، يعاني القطاع الزراعي في المغرب من مشكلات عديدة، بعضها بسبب الظروف المناخية، أو نتيجة انخفاض الإنتاجية، على الرغم من أن قطاع الزراعة هو الأكثر مركزية في الاقتصاد المغربي. وأمام هذا الوضع، تمتلك إسرائيل القدرة على تصدير خبراتها المعرفية والتكنولوجية في هذا المجال للمغرب، ولديها شركات عديدة طورت تقنيات متقدّمة في مجالات الري ومعالجة المياه للزراعة، والصوبات الزراعية، وصناعة منتجات الألبان، والزراعة المائية وغيرها.
تهتم إسرائيل بتقوية روابطها الاقتصادية مع الإمارات؛ إذ تعتبرها بوابة إلى الأسواق الآسيوية
تشير التقارير أيضاً إلى تفوّق إسرائيل في مجال الطاقة، وامتلاكها أكثر من مائة شركة متخصّصة في تقنيات الطاقة، والطاقة المتجدّدة، وتطمح إلى تصديرها إلى دول أخرى؛ ومنها المغرب الذي يستورد حوالى 90% من احتياجاته من الطاقة. لكن إسرائيل لا تنظر إلى المغرب فقط بوصفه بيئة خصبة للاستثمار الإسرائيلي، بل إنه مدخل للوصول إلى أسواق دول غرب أفريقيا وتوسيع أنشطتها هناك. وفي هذا الصدد، استطاعت شركة ميروم إنرجيا الإسرائيلية أن تستحوذ على 30% من أسهم شركة الطاقة المتجدّدة المغربية جايا إنرجي التي أعلنت، عبر موقعها في نهاية فبراير/ شباط الماضي، تعاونها مع الشركة الإسرائيلية، وهي فرصة كبيرة بالنسبة إلى إسرائيل، وخصوصاً أن شركة جايا تمتلك عدداً كبيراً من مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية في عدة دول أفريقية في شمال القارّة وشرقها وغربها.
وتمثل دول الخليج فرصة كبيرة لإسرائيل؛ فما تمتلكه هذه الدول من ثرواتٍ يغري الشركات الإسرائيلية بدخول هذه الأسواق في مجالاتٍ عديدة، خصوصاً في مجالات البنية التحتية، والطاقة المتجدّدة؛ وقد تمكّنت شركات إسرائيلية من طريق فروعها في أوروبا أو الولايات المتحدة من الحصول على مشاريع تقدر بمليارات الدولارات في عدد من الدول الخليجية؛ وفي مقدمتها الإمارات والسعودية، بعضها يتعلق بتركيب كاميرات ومستشعرات لمراقبة الطرق، وبعضها الآخر في مجال الأمن السيبراني ومراقبة برامج التواصل الاجتماعي، أو غير ذلك من مشروعاتٍ كبيرة، فضلاً عن اهتمام إسرائيل الكبير بتقوية روابطها الاقتصادية مع الإمارات؛ إذ تعتبرها بوابة إلى الأسواق الآسيوية. وتقدم إسرائيل لمصر والأردن (ودول عربية أخرى) استشارات في مجال الزراعة، والمعدّات والآلات، وإدارة مصادر المياه واستخدامها، خصوصاً مع الأردن، لما يعانيه من ندرة الموارد المائية.
ويقدّر متخصصون إسرائيليون أنه في حال تمكُّن إسرائيل من اختراق الأسواق العربية، وهو ما يحدث بمعدّلات متزايدة حالياً، سيؤدّي ذلك إلى نمو اقتصادي في إسرائيل، وزيادة نصيب الفرد في الناتج المحلي، وسيؤدّي هذا النمو في غضون عقد واحد إلى وضع إسرائيل ضمن أغنى 15 دولة، فضلاً عن إيجاد عشرات الآلاف من الوظائف للإسرائيليين.
تنظر إسرائيل إلى الدول العربية على أنها سوقٌ يشكل فرصة لإسرائيل للتوسّع الاقتصادي
يفرض ما سبق طرح سؤال مهم عما إذا كان هناك أي احتمال بأن تكون مكاسب الدول العربية من هذا التعاون تعادل ما تحققه إسرائيل، وهل تمتلك أيٌّ من هذه الدول في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، والأمن السيبراني، والبرمجيات، وإدارة الثروات المائية... ما يتيح لها اختراق الأسواق الإسرائيلية، مثلما تفعل إسرائيل في الأسواق العربية، فضلاً عن الاختراق الأمني؟ الإجابة بالطبع لا، وليس ذلك لنقص في الكفاءات العلمية، أو القدرات البشرية، فما أكثرها في العالم العربي، بل نتيجة عوامل أخرى كثيرة، يتعلق بعضها بالمناخ العلمي وميزانيات التعليم، وبعضها بالمناخ السياسي والحرّيات وانتشار الفساد، وهكذا.
ونتيجة لهذه العوامل، تنظر إسرائيل إلى الدول العربية على أنها سوقٌ يشكل فرصة لإسرائيل للتوسّع الاقتصادي، ومحاولة دفع هذه الدول إلى الاعتماد عليها في تطوير البنى التحتية، وتحقيق تنمية تحدّد إسرائيل مجالاتها، أو تنظر إليها معبراً تستطيع من خلاله الوصول إلى دول أخرى لا يمكنها الوصول إلى أسواقها مباشرةً، وهي نظرة استعمارية متعالية، تشبه التي أشار إليها إدوارد سعيد مع بداية ظهور الاستشراق، وقادت، في النهاية، إلى الاستعمار الغربي الذي طالما اعتبر سكان الشرق أقلّ تعليماً وثقافة، وفي حاجة لمن يأخذ بأيديهم دائماً.
تدرك إسرائيل أن إمكاناتها الجيوسياسية لا تسمح لها ببناء مشروع استعماري كبير
لكن إسرائيل تدرك أن إمكاناتها الجيوسياسية لا تسمح لها ببناء مشروع استعماري كبير، ولذلك كان عليها أن توجد بديلاً يمكّنها من تحقيق هذا المشروع بطريقة مغايرة. في هذا السياق، يقرّ المتخصص في شؤون الشرق الأوسط والعالم الإسلامي في جامعة تل أبيب، البروفيسور إيلي بوده، بهذه الإمكانات المحدودة من مساحة إقليمية صغيرة، وحدود هشّة، وموارد طبيعية محدودة، فضلا عن قلة عدد السكان. ولذلك، تستعيض عن نقص هذه الإمكانات بتوظيف كل طاقاتها الاقتصادية من أجل تحقيق هذا التوسع الاستعماري، وتكون قد تمكّنت من اختراق منظومة الأمن العربي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
وإذا كان مقاومو التطبيع في العالم العربي يرفضون مبدأ التعامل مع إسرائيل من الأساس، وبالتالي، فإنهم غير معنيين بوضع خطط تحدّد ما الذي يمكن الاستفادة منه أو تحقيقه من علاقة الدول العربية معها، فإن على النخب المؤيدة للتطبيع، وهي غالباً تابعة للأنظمة الحاكمة للدول العربية التي اختارت العلاقات مع إسرائيل، أن تنشغل بوضع هذه الخطط، وألا يتوقف دور هذه النخب على الدعوة إلى الانفتاح على دولة الاحتلال تلبية لما تريده هذه الأنظمة، لأن ذلك يؤدّي، في النهاية، إلى الذوبان في المشروع الصهيوني.
وإذا كنّا قد تعلمنا سابقاً أن الحلم الصهيوني الاستعماري يتحدّث عن امتداد من النيل إلى الفرات، فالواضح، في ظل هذا التطبيع الرسمي المتسارع، وطموح إسرائيل في التغوّل في الأسواق العربية، أن هذا الحلم قد أصبح ضيقاً على الخيال الإسرائيلي، وهو ما يستلزم جهداً أكبر يبذله رافضو التطبيع.