إسرائيل في أفريقيا .. من "نموذج تنموي" إلى تكريس شراكة الهيمنة
اكتسبت مسألة "الوجود الإسرائيلي" في أفريقيا، وجذوره الصهيونية، أهمية كبيرة، لارتباطه عضويًا بالصراع العربي الإسرائيلي، حتى قبل قيام "دولة إسرائيل"، فيما تجسّد في التصور "الأفريقي"- الصهيوني المتبادل، وتفهم "أفريقي" نخبوي للصهيونية ومبرّراتها ومشروعها منذ نهاية القرن التاسع عشر. وظل ملفتًا ارتكاز الرؤية العربية لهذا الوجود على تجاوز فرضية المصالح المشتركة بين إسرائيل والدول الأفريقية التي قامت بينها علاقات وصلات وارتباطات في ملفات عدة، أبرزها الأمني والاقتصادي، والوقوف عند تداعيات "التغلغل" و"النفوذ" الإسرائيلي في القارّة على الأمن القومي العربي، بمعناه الشامل تعريفًا وجغرافيةً. ولكن الفهم الأعمق لهذه العلاقات، عربيًا في هذا المقام، يتطلب الاستكشاف الدقيق والمباشر لدوافع أطرافها، من دون رهنه بالرؤية الذاتية وحدها. وللمفارقة، عدم إضفاء قدر من المبالغة عليها، سواء من ناحية حجمها أو تأثيراتها، وقبل ذلك كله ضرورة وضعها في سياقاتها التاريخية الدقيقة، وتفادي "الأدلجة" المفرطة والاستقطاب التحليلي، المسبق في واقع الأمر، الذي يتجاهل خطورة الوقوع في خللٍ منهجي واضح، ويحول دون قراءة المشهد الحالي على وجه صحيح.
نحو "تأصيل تاريخي"
استندت "دولة إسرائيل" ونخبها إلى تاريخ طويل، وإن كان بحجم محدود للغاية بشريًا، من الوجود اليهودي في عالم البحر الأحمر والبحر المتوسط، لإعادة تكوين صورة تبدو متماسكةً عن وجود يهودي عتيق في القارة الأفريقية على أطراف هذا العالم. ومثالًا، قدّم الأنثروبولوجي الإسرائيلي فران ماركويتز (1996) خريطة بالغة التجريد "للعبرانيين الأفارقة"، معتبرًا أنهم انتشروا من هذا العالم إلى قلب النوبة وكوش على أطراف إثيوبيا (امتدت جغرافيًا حسب خريطته إلى أطراف بحيرة تشاد)، وصولًا إلى إقليم البحيرات العظمى، وغربًا بين قبائل اليوروبا والأشانتي. وحاول في دراسة له (قامت على عمل ميداني استغرق نحو ثلاثة أعوام، قوامه الاستشهاد بروايات الأهالي في المناطق المذكورة) الاستدلال على أن "العبرانيين الأفارقة" يهودٌ خلص، في مزج إثني- ديني، واجه انتقاداتٍ من دوائر فكرية يهودية.
استندت "دولة إسرائيل" ونخبها إلى تاريخ طويل من الوجود اليهودي في عالم البحر الأحمر والبحر المتوسط، لإعادة تكوين صورة تبدو متماسكةً عن وجود يهودي عتيق في القارة الأفريقية
وقد حضرت أفريقيا في المشروع الصهيوني، عبر تعاطف بلاغي متبادل في أدبيات الجانبين، لم تغب بريطانيا عمليًا عن تفاعلاته بوصفها القوة العظمى والمؤسسة الأبرز في المشروع. ويصف محمد شهيد علام في مؤلفه (Israeli Exceptionalism: The Destabilizing Logic of Zionism, 2009) المصالح البريطانية في قيام "دولة إسرائيل" باختصار بالغ، في مفتتح فصله عن هذه المسألة، بأن إعلان بريطانيا وعد بلفور (نوفمبر/ تشرين الثاني 1917) جعل من إسرائيل "الدولة الأم لمشروع بريطانيا الاستعماري"، معتبرًا، في مقارنة تاريخية بالغة الدقة والإحكام السياقي، أن العنف والمركزية الإثنية لروايات الغزو في العهد القديم تتسق تمام الاتساق مع حروب الدول البروتستانتية وأطماعها الاستعمارية في الأميركيتين وأفريقيا وآسيا؛ ما أضاف خلفية تاريخية مهمة للترابط البريطاني - الإسرائيلي، أو البروتستانتي - اليهودي بمعايير رؤية دينية، في المصالح والنزعة الاستعمارية، أخذًا في الاعتبار دور إدارة بريطانيا لفلسطين (1920-1948 تحت وصاية عصبة الأمم حتى رحيل آخر جنود بريطانيا من فلسطين في 30 يونيو/ حزيران 1948 بعد إعلان قيام "إسرائيل") في دعم قيام "دولة إسرائيل".
وفي مستوىً أحدث، إذا استثنينا العلاقة التاريخية "العضوية" بين إسرائيل وجنوب أفريقيا التي توجت باعتراف الأخيرة بالأولى في 24 مايو/ أيار 1948، فإن صلات إسرائيل بدول أفريقيا جنوب الصحراء تعود إلى منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكان بعضها قبل حصول الدول الأفريقية على استقلالها. وفي 1956، أقامت علاقات دبلوماسية مع غانا، بما لذلك من رمزيةٍ كبيرةٍ لكون الأخيرة رائدة حركات التحرّر في منطقة غرب أفريقيا، تلتها خطواتٌ مماثلةٌ من عدد كبير من دول أفريقيا جنوب الصحراء، وصل عددها في مطلع السبعينيات إلى 33 دولة. وبعد حرب أكتوبر 1973 قطعت أغلب الدول الأفريقية علاقاتها مع إسرائيل، ما اعتبرته تل أبيب على خلفية وعود الدول العربية لنظيرتها الأفريقية بتقديم البترول بأسعار مخفضة ومساعدات مالية؛ والالتزام بقرارٍ قدّمته مصر لمنظمة الوحدة الأفريقية يدعو الدول الأعضاء إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، استمر التعاون الاقتصادي بين إسرائيل ودول القارّة عند مستوى ما، سيما تقديم الخبراء العسكريين والاقتصاديين الإسرائيليين.
إسرائيل نموذجًا تنمويًا؟
عوّلت إسرائيل، وبدرجة فائقة من الوعي، على مفهوم القوة الناعمة، الذي صكّه عالم السياسة الأميركي جوزيف ناي، معتبرًا إياه "الوجه الآخر للقوة" الذي تفرض، من خلاله، القوى الفاعلة هيمنتها باستمالة الدول المستهدفة لتبني سياساتها والإعجاب بقيمها وتقليد نظامها السياسي والاقتصادي. وتربط الدولة الإسرائيلية المفهوم بالرسالة المكلف بها الشعب اليهودي منذ النص التوراتي "أنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ" (إشعياء 42: 6)؛ الأمر الذي ترجمه ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، بتوقعه في 1960 أن "صلاتنا مع الأمم الناشئة ستكون أفضل سبل تقوية مكانتنا في العالم"، وما لاحظه محللون كثر أن علاقات إسرائيل الأفريقية ساهمت، أكثر من غيرها، في خروج الأولى من عزلتها. وأوجز إيلي فرايد (2006) ارتباط القوة الناعمة بسياسات إسرائيل في التعاون التنموي مع أفريقيا، مؤسسًا هذا الارتباط على رؤية بن غوريون، أن بقاء الدولة لا يعتمد فحسب على قوتها العسكرية، ولكن على تكوين فهم دولة لأخلاقها وشرعيتها الموروثة، ملاحظًا أنه مع تنامي قدرة إسرائيل (مطلع الألفية الحالية) على الدفاع عن نفسها، فإن قناعة المجتمع الدولي بوجوب "قيامها" لا تزال محل تساؤل متزايد؛ ما يتطلب من إسرائيل مواجهاتٍ غير عسكرية وحملات علاقات عامة.
حضرت أفريقيا في المشروع الصهيوني، عبر تعاطف بلاغي متبادل في أدبيات الجانبين
وقد نشط "النموذج التنموي" الإسرائيلي لدى الدول الأفريقية بشكل خاص بعد تكوين قسم التعاون الدولي بالخارجية الإسرائيلية "الماشاف" (1958)، وما وفّره من إطار مؤسساتي لاتفاقيات تعاون تنموي بين إسرائيل و22 دولة أفريقية حتى 1973، وإرسال إسرائيل، في هذه الفترة، حسب تقديرات جويل بيترز، في فصل وثائقي وهام عن عودة إسرائيل إلى أفريقيا في ثمانينيات القرن الفائت، ضمن بحوث كتاب ذائع الصيت "Africa in World Policy" (1987)، أكثر من ثلاثة آلاف خبير، واستقبالها أكثر من سبعة آلاف متدرّب أفريقي لحضور دورات مختلفة في إسرائيل. وكانت الزراعة القطاع الأبرز في التعاون التنموي الإسرائيلي الأفريقي. كما سعت إسرائيل إلى ترسيخ نموذجها التنموي خارج إطار المقاربة الثنائية مع دول القارّة، وبدور تقليدي مع القوى الاستعمارية الكبرى الفاعلة في القارّة. ويتضح ذلك في حث بن غوريون (1960) الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، على تكوين دولة استيطانية استعمارية في الجزائر، في مناطقها الزراعية الخصبة، على امتداد ساحل البحر المتوسط، ومن ثم استلهام "التجربة الإسرائيلية" في قلب الدولة العربية المهمة والكبيرة.
وفي تفسير واقعي لهذا "النموذج" ودوافعه، قدّم المتخصص البارز في الشؤون الأفريقية الإسرائيلية زاك ليفي (2003) قراءاتٍ دقيقة؛ ولاحظ أن فترة مطلع ستينيات القرن الفائت شهدت إيلاء إسرائيل اهتمامًا أكبر بمواجهة نفوذ الدول العربية والكتلة الشرقية الذي هدّد مصالحها في دول أفريقيا جنوب الصحراء؛ وبدلت إسرائيل تركيزها الأساسي من غرب أفريقيا إلى سعيها إلى تحقيق علاقات وطيدة مع إثيوبيا وكينيا وأوغندا وتنزانيا، أملًا في إقصاء مصر ودور الكتلة الشيوعية من الإقليم الأكبر (شرق أفريقيا والقرن الأفريقي)، وتأمين مصالحها في البحر الأحمر؛ فيما سعت تل أبيب إلى إقناع القوى الغربية، سيما الولايات المتحدة وبريطانيا، بأن أنشطتها في أرجاء القارة الأفريقية تكون حاجزًا "أمام التوغلين، السوفيتي والصيني" في القارّة. كما طرحت إسرائيل نفسها تقليديًا كرصيد استراتيجي لتأمين الدعم السياسي والمالي الغربي لمشروعاتها المدنية والعسكرية في القارّة، وأبرزها تقديم التدريب العسكري للكونغو في تلك الفترة. ويوضح هذا التفسير مزج "النموذج الإسرائيلي" بين مصالح جيواستراتيجية مباشرة لتل أبيب (عبر تحقيق أهداف النفوذ وتحجيم نفوذ القوة الأبرز المعادية لإسرائيل لعقود: مصر)، والاستفادة من الوساطة كقناة لتمرير المعونات الغربية لأفريقيا، ما يخفض عبء الدور الإسرائيلي وتكاليفه (بتغطية "مساعداتها" من تمويلات غربية، بصيغة لا تزال قائمة)، ويعظم العائدات السياسية العديدة.
نشط "النموذج التنموي" الإسرائيلي لدى الدول الأفريقية بشكل خاص بعد تكوين قسم التعاون الدولي بالخارجية الإسرائيلية "الماشاف" (1958)
وقد تعرّض "النموذج التنموي" لهزّة كبيرة عقب حرب أكتوبر 1973؛ ففي مقابل ما اعتبرته إسرائيل جحودًا أفريقيًا لمقاربتها التعاونية قبل الحرب، ردّت بترقية صلاتها بجنوب أفريقيا في مطلع 1974، ورفضت الاستجابة لطلبات دول أفريقية لاحقًا لمواصلة مشروعات التعاون الفني، وخفضت، بنسبة كبيرة، الموارد المخصصة للقضايا الأفريقية، وتفاقمت العزلة الإسرائيلية في أفريقيا عقب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1975 بمساواة الصهيونية بالعنصرية. وزاد تآكل دور الدولة الإسرائيلية "التنموي" بشكل ملفت جرّاء ما اعتبره باحثون إسرائيليون "انعزال الخارجية الإسرائيلية عن إدارة شؤون البلاد في أفريقيا، مفسحةً المجال أمام الشركات الكبيرة ورجال الأعمال". بينما زادت وزارة الدفاع من صلاتها العسكرية مباشرة مع كبار القادة الأفارقة، ووجه نحو 35% من صادرات الأسلحة الإسرائيلية، في نهاية السبعينيات، إلى دول القارة الأفريقية. واستمر المسار الاقتصادي والعسكري يسير بسرعة أكبر من مسار استعادة صلات إسرائيل الدبلوماسية مع الدول الأفريقية على الأقل حتى العام 1982، عندما أعلن رئيس زائير، موبوتو سيسي سيكو، استعادة علاقات بلاده مع إسرائيل، على خلفية سعيه إلى التعويل على علاقات الأخيرة مع واشنطن في تعزيز سلطته، وهو المسار الذي اتبعه عدد آخر من قادة الدول الأفريقية، لتحلّ العلاقات الأمنية والعسكرية بين إسرائيل ونظم حاكمة بأجندات استبدادية متنوعة محل "النموذج التنموي" المضطرب في واقع الأمر.
تعرّض "النموذج التنموي" لهزّة كبيرة عقب حرب أكتوبر 1973
وقد عكست السمة الانتقائية لصلات إسرائيل الدبلوماسية في أفريقيا المصالح المتغيرة في تلك الفترة، وعجز الخارجية الإسرائيلية عن المبادرة بتشكيل المرحلة الجديدة في العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، عوضًا عن تصدّر "الماشاف" الذي مثل العمود الفقري للدور الإسرائيلي في أفريقيا لهذا الدور، وتحوّل برنامج مساعدات إسرائيل لأفريقيا للاعتماد بشكلٍ شبه كامل على التمويل الخارجي ومصالح الشركات الخاصة في أفريقيا، الأمر الذي نسقه "الماشاف" بامتياز.
ما بعد أوسلو 1993
بدأت العلاقات الدبلوماسية مع أفريقيا تعود بانتظام في الثمانينيات، وحققت طفرة كبيرة بعد تقدّم مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية. ووصل عدد الدول الأفريقية جنوب الصحراء التي لديها صلات دبلوماسية مع إسرائيل إلى 39 دولة. لكن على غير ما يروج عربيًا، فإن مسألة علاقات إسرائيل مع القارّة، حسب تأكيد ناعومي تشازان (في الفصل الافتتاحي لكتيب تأسيسي بعنوان "إسرائيل وأفريقيا" 2006)، شهدت تراجعًا بشكل ملموس في فكر الأولى وأولوياتها في تلك الفترة، حتى تداركت أهمية القارّة، وتابعت باهتمام عملية التكامل لسياسي والاقتصادي بها، وتكوين الاتحاد الأفريقي. ولكن، كما لاحظ تشازان، لم يكن تهميش أفريقيا في ذهنية إسرائيل، في بداية القرن الحالي، نتيجة تغير الاهتمامات الدولية والإقليمية فحسب، لكن جرّاء عوامل "شعورية" أخرى.
وحضرت إسرائيل والقضية الفلسطينية، على خلفية هذا الاضطراب، في قلب رؤية أفريقية ماركسية في سياق جدل الاستشراق وصراع الحضارات، وهناك مثال بارز على ذلك لمؤلف الماركسي، بريان تيرنر، بعنوان ماركس ونهاية الاستشراق (2014) قدّم فيه نقدًا أفريقيًا عاصفًا لأفكار الاستشراق (وفي قلبه مسألة القضية الفلسطينية)، مهد لاحقًا لنقد الأسلمة المبالغ فيها over - islamisation، وتفريغ التعقد التاريخي، وابتذال خطابات "الإسلاموفوبيا"، وأبرز ما اعتبره التزام الإسلام التاريخي بالعلمانية في ماضيه (نقلًا عن عزيز العظمة في بحث بعنوانPostmodern obscurantism and the ‘Muslim question, 2002)، وفي الوقت نفسه، تسخير "الإسلاموفوبيا" لصالح (التغاضي عن) قضية "الأبارتهيد الإسرائيلي"، والتي استخدمت لعزل القضية الفلسطينية والتشهير بها. وللفكاك من مثل هذه التنميطات غير المنهجية، دعا ماركسيون مثل جلبرت آشار G. Achar (في مؤلفه عن الماركسية والاستشراق والكوزموبوليتانية، 2013) إلى تمييز النزعة الأصولية، وكذلك علم اجتماع الأديان الماركسي، لفهم ديانات العالم بما فيها "تعاليم الإسلام"؛ فيما وضع آخرون الصراع العربي الإسرائيلي في سياق الديناميات العالمية وهيمنة القوة الإمبراطورية الأميركية، بما في ذلك إعادة صنع الشرق الأوسط بعد أحداث "11 سبتمبر" في 2001، ما أبرز التغيرات في الصهيونية المهيمنة كأيديولوجية سياسية، انتقلت من نزعة عمالية إلى ليبرالية، ثم إلى صهيونية دينية.
حضرت إسرائيل والقضية الفلسطينية في قلب رؤية أفريقية ماركسية في سياق جدل الاستشراق وصراع الحضارات
وعلى الرغم من قفز إسرائيل فوق صعاب كثيرة نحو هدف القضاء على عدالة القضية الفلسطينية في التصوّر الأفريقي، وفي ظل غياب خريطة طريق للسلام في فلسطين، ترتفع الأصوات، من حين إلى آخر، لوصف ممارسات إسرائيل بممارسات الأبارتهيد في جنوب أفريقيا، كان جديدها أكبر جماعات حقوق الإنسان في "إسرائيل" نفسها B'Tselem التي وصفت، منتصف يناير/ كانون الثاني الفائت، ظروف حياة الفلسطينيين في "الأراضي المقدّسة" (خمسة ملايين فلسطيني في الضفة وقطاع غزة) بأنها في ظل "نظام للأبارتهيد"، ووصفها أحوالهم بأنهم يخضعون لفسيفساء منقسمة من القوانين التمييزية عادة. ولاحظت أنه، على الرغم من وجود مشكلة تمييز تاريخية في إسرائيل، فإن تفعيل رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، قانون الدولة الأمة ضمن التفوق اليهودي دستوريًا، وإطلاق خطة الضم الرسمي أجزاء من الضفة الغربية؛ فيما يطابق نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا وسياساته في أوج هيمنته.
تكريس شراكة الهيمنة
لوحظت مبادرة نتنياهو، منذ منتصف العام 2017، بنشاط مكثّف في دول أفريقيا جنوب الصحراء، وكان أول رئيس غير أفريقي يشارك في قمة الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في العاصمة الليبيرية، منروفيا، ثم شارك في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، في حفل تنصيب الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، وتزامن مع هذا التقدّم الدبلوماسي نمو الاستثمارات الإسرائيلية في إقليمي غرب وشرق أفريقيا التي تركز على المصالح الجيواستراتيجية والأمنية، وخصوصا تكوين قائمة حلفاء لدعم إسرائيل في الهيئات الدولية ومحاربة الحركات الجهادية، لكسب شركاء تجاريين جدد، والوصول إلى الأسواق الأفريقية، وهي استراتيجية ناجحة للغاية، لتشجيع الدول الأفريقية إسرائيل، وغيرها في واقع الأمر، للعب مثل هذا الدور من دون أية تحفظات تقليدية.
ترتفع الأصوات، من حين إلى آخر، لوصف ممارسات إسرائيل بممارسات الأبارتهيد في جنوب أفريقيا
ومثل المجال الدفاعي - الأمني الحالة الأكثر تجسيدًا لدور إسرائيل في أفريقيا، الأمر الذي اتخذ منحً تصاعديًا كبيرًا منذ العام 2018، بالتزامن مع رفع الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، القيود على مبيعات طائرات الكوبرا الهيلوكوبتر أميركية الصنع لدول إفريقية، مع تحقيق تل أبيب اختراقات مهمة في جنوب السودان، وساحل العاج ونيجيريا والكاميرون، ما عزّز قيمة القارة الأفريقية كسوق لمبيعات السلاح الإسرائيلية.
في ملاحظات ملفتة، يخلص يوتام جيدرون (في مؤلفه الذي أثار ضجة كبيرة أخيرا، Israel in Africa: Security, Migration, Interstate Politics, 2020) إلى سعي إسرائيل، في الأعوام الأخيرة، إلى الدعم الأفريقي في ظل التنافس الدولي على مقدّرات القارة، مع اهتمام القادة الأفارقة بالشراكة مع إسرائيل (سيما أمنيًا). وعلى الرغم من ارتباط هذا السعي بجذوره في السياسة المحلية والإقليمية في فلسطين والشرق الأوسط، فإن الشكل الذي تجسّد فيه النفوذ على الأرض لا ينفصل عن العمليات الأوسع نطاقًا، وأثرت على البيئة السياسية في أفريقيا طوال العقدين الفائتين، سيما الحرب على الإرهاب التي حوّلت الولايات المتحدة إلى مصدر مهم للمخصصات والدعم. وبالتالي، رفع شأن إسرائيل في القارّة. كما قاد ذلك إلى تزايد الطلب الأفريقي على المعدّات والخبرة الأمنية الإسرائيلية، فيما نظرت دول أفريقية لسياسات إسرائيل التي تضع أولوية لمكافحة الإرهاب تجربةً مهمة، مقارنة بالنموذج الإسرائيلي "التنموي" في خمسينيات القرن الفائت وستيناته، يمكن أن تكون داعمة لموقفهم دوليًا؛ فيما عزّز نمو الحركات "البنتيكوستال" والمسيحية الأخرى، حسب رؤية جيدرون (في تأكيد مدهش وغير مقصود لمقولات "علام" بعد نحو ثلاثة عقود من التجاهل النسبي، وما يمكن ربطه بزعيم في حجم آبي أحمد الذي ينتمي للحركات نفسها) فئات/ قطاعات جديدة تعزّز مصالح إسرائيل في أفريقيا، ما وصفه تحت عنوان لافت إجمالًا "دول إسرائيل الأفريقية" Africa's Israels.
الوصلة الإماراتية
عند مقارنة الأجندة الإسرائيلية في أفريقيا يلاحظ تطابقها واتساقها بشكل واضح مع أجندة أغلب شركاء أفريقيا الدوليين، ومن بينهم الإمارات. وعزّز تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات قبل شهور من شراكتهما في القارة الأفريقية، وربما كان من أهم دلالات ذلك على المستوى المعلن أجندة حدث هام نظمته "تمكين أفريقيا" Empower Africa الإسرائيلية (شبكة أعمال إسرائيلية للاستشارات والمعلومات تقدّم خدماتها لقطاعات متنوعة من المشروعات الصغيرة والمتوسطة والشركات متعددة الجنسيات والحكومات والهيئات الحكومية إلى الجامعات والمنظمات غير الحكومية) في دبي، تحت عنوان ملفت "الإمارات وإسرائيل تتحدان مع أفريقيا" بموازاة مؤتمر جيتكس منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2020، حضر مؤسس المبادرة وكبار مسئوليها "في حدث هو الأول للمبادرة في الإمارات"، وحضره أحمد بن سليمان الرئيس التنفيذي لمركز دبي للسلع المتعددة (DMCC) إلى جانب 60 ضيفًا من عشرة دول، منها نيجيريا ورواندا ومصر من أفريقيا، إضافة إلى البحرين والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا والهند. وإضافة إلى مهمة تشبيك العلاقات بين ممثلي الدول الحاضرة، كشفت الفاعلية عن استراتيجية الجهود الإسرائيلية الإماراتية المشتركة في أفريقيا، انطلاقًا من ثقافة ابتكار قويةٍ لدى الجانبين، وتطوير هذه الصلات المتبادلة إلى دعم مشترك "للآخرين"، سيما أن تطبيع العلاقات بين تل أبيب وأبو ظبي فتح الطريق أمام شراكاتٍ متعدّدة الأطراف بين الشركات الإسرائيلية والإماراتية والأفريقية، حسب تصريحات مسؤولي البلدين. وعمل الجانبان على تحقيق الإمكانات التجارية في الاستثمار والشراكة مع رواد الأعمال والشركات الأفريقية. فيما اعتبر بن سليمان أن الفعالية أبرزت الفرص الفريدة لدى البلدان للإضافة لأفريقيا، وتطلعه للعمل مع المبادرة لدفع مبادرات التعاون في بناء التجارة مع القارة الأفريقية.
يؤشر تقارب منطلقات الإمارات وإسرائيل تجاه أفريقيا على مرحلة جديدة لإسرائيل في القارة الأفريقية، تتجاوز إشكالات "الممانعة" العربية، وموقع "القضية الفلسطينية" في المسألة
يؤشر تقارب منطلقات الإمارات وإسرائيل تجاه أفريقيا (سيما التحرّك عبر شركات دولية وشراكات براغماتية مع قادة دول أفريقية يغلب عليها الجانبان الأمني والعسكري) على مرحلة جديدة لإسرائيل في القارة الأفريقية، تتجاوز إشكالات "الممانعة" العربية، وموقع "القضية الفلسطينية" في المسألة، وصولًا إلى قدرتها على التوصل إلى شراكة تمويلية مستدامة مع طرف إقليمي فاعل، ومن أهم شركاء الاتحاد الأفريقي مرحليًا، سيما أن تجارة الإمارات مع أفريقيا في السلع غير البترولية وصلت، في الشهور التسعة الأولى من العام 2020، إلى 40.7 بليون دولار، وتصنف حاليًا ثالث أكبر مركز عالمي لإعادة التصدير، عوضًا عن تصاعد أهميتها بوابة للأسواق الشرق أوسطية والأفريقية.
في الختام
لم تتغير رؤية الدول الأفريقية لإسرائيل أو رؤية الأخيرة للأولى، كما توصل جيدرون، جذريًا بمرور العقود، لكن العامل الذي كان أكثر حسمًا واستمرارية في أي تغيير في هذه العلاقات هو "المنطق الأمني" الذي جمع بين الطرفين، أو حال بينهما في بعض الأحيان، على خلفية الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية وإيران وإدارة الهجرة وحاجة النظم الأفريقية الحاكمة الهشّة الملحة والقديمة لتأمين "الرعاية" الدولية لها. ولفت، في ملاحظة دقيقة للغاية، أن ما تغير بالفعل تراجع أدوار "المؤسسات المدنية" في دولة إسرائيل التي أصبحت أقل مركزية في مسألة الانخراط في القارّة الأفريقية، وغلبت جراء ذلك هيمنة المؤسسة العسكرية والأمنية في إدارة "ملف العلاقات مع أفريقيا".
يمكن تلخيص البراغماتية الإسرائيلية - الصهيونية في أفريقيا في مفارقةٍ بالغة الدلالة، أوردها فران ماركوفيتز، وأوصى فيها بقبول المجتمع الإسرائيلي حشد "العبرانيين الأفارقة" في الولايات المتحدة جهودهم خلف هدف "الخروج من أميركا" والاستيطان في إسرائيل، وبناء جماعة خاصة بهم هناك، تقوم، فعلا وقولًا، بربط إسرائيل بأفريقيا، وأفريقيا بإسرائيل. وأنهم بفعلهم ذلك يغيرون ما استقر تاريخيًا من أن أوروبا هي المركز وأفريقيا ظله؛ وتمنحهم القوة وإحياء معرفة تجربة العبودية منذ عهود بعيدة، وإعادة بناء أنفسهم شعبا يعتز بنفسه، ويملك قانونًا ولغة وأرضًا وهوية. وأقل ما يقال عن هذه الرؤية إنها وصاية كولونيالية، تستدعي الصورة التقليدية للأفريقي "القاصر" حضاريًا، والإنسان "الأبيض" الذي يتولّى مهمة تمدينه، عبر وكلاء محليين و"قبليين".