19 نوفمبر 2024
إسرائيل وتشاد.. وغيرها
واحدٌ من حزمة معانٍ غير قليلةٍ تشتمل عليها زيارة رئيس تشاد، إدريس ديبي، إسرائيل، الأحد الماضي، أن غياب علاقات دبلوماسية بين الدول لا يعني بالضرورة أن العلاقات في وجوه أخرى سيئة، بل إنها يمكن أن تكون ممتازة. يوضح هذه المسألة ديبي نفسُه، في قوله في المؤتمر الصحافي المشترك، مع مضيفه نتنياهو، إن قطع العلاقات الدبلوماسية منذ السبعينيات (46 عاما) "لم يمنع العلاقات الجيدة بيننا التي استمرت طوال الوقت". والظاهر أن ولعا خاصا تجاه الدولة العبرية يقيم في جوانح هذا الرئيس، فقد درس نجلُه في إسرائيل، ويتقن العبرية، وكان بصحبة والده في الزيارة التي اغتبط بها نتنياهو، ووصفها تاريخيةً، ويتردّد أنه قد يصير سفير بلاده في تل أبيب بعيْد إعلان عودة العلاقات الدبلوماسية قريبا. وديبي، الحاكم منذ 18 عاما، مدينٌ لإسرائيل، إذ زودت هذه نظامَه بأسلحةٍ ومعدّات عسكرية كان لها نفعها في مواجهة تمرّد في البلاد، غير أن هذا الوجه الأمني للعلاقات، غير الخافية كما أحب أن يوضح ديبي في قوله عن الإرهاب عدوّا مشتركا بين تشاد وإسرائيل، ليس الوحيد بينهما، فثمّة تطلعاتٌ مشتركة إلى الإفادة من الخبرة الإسرائيلية في الزراعة مثلا، والتي انتفعت منها دولٌ غير قليلة في إفريقيا، نشطت العلاقات التي أعادتها مع تل أبيب، وزارها نتنياهو ووزراء في حكوماته، وأسلافٌ له ولهم.
ما يحسُن أن نعرفه، نحن العرب (إذا رغبنا) أن إسرائيل، في عهود كل حكوماتها، لم تملّ من محاولات اختراق القارة السمراء، وجرّها إلى تطبيع العلاقات الثنائية، ونجحت في غير بلد، مع اهتراء الجسد العربي الذي ما انفكّ يتداعى، وباضطراد متسارع، سيما بعد رحلة أنور السادات إياها، إلى القدس في 1977، ثم القفزة النوعية بعد إشهار اتفاق أوسلو في 1993. وسيما أيضا مع اشتداد حاجة بلدان أفريقية إلى علاقاتٍ أوثق مع الولايات المتحدة، وإلى مساعداتٍ وهباتٍ وقروضٍ وبرامج إنمائية من الغرب ومؤسساته، ومن صندوق النقد الدولي، بعد انشغال العرب في حروبهم الأهلية، واقتصار التفات غير دولةٍ منهم إلى أفريقيا على منظور الإحسان الذي تتكرّم به جمعياتٌ خيرية (وهذا محمودٌ على أي حال)، وإنْ في البال أن مشاريع قطرية وسعودية وإماراتية قامت، ولبعضها أهميته، غير أن غياب منظور عربي موحّد، يستند إلى استراتيجيةٍ مكينةٍ، في التعامل مع القارة الأفريقية، بمنطق الشراكة مثلا، كان من أبرز أسباب الازورار الذي تتابع من غير دولة أفريقية (أكثر من نصف العرب أفارقة بالمناسبة)، وتوالى، في الوقت نفسه، العبورُ الإسرائيلي في القارة، سيما في الدول الكبرى فيها، من دون إغفال الصغرى، من بوابات السلاح والأمن وصناعاتهما وابتداع مصالح اقتصادية، وإرسال خبراتٍ في الزراعة والتكنولوجيات وغيرهما. ولم يكن مفاجئا أن من أول ما أقدمت عليه جمهورية جنوب السودان، ما أن قامت في عام 2011، توثيق علاقاتٍ معلنةٍ مع إسرائيل.
ومن كثير تفيد به زيارة رئيس تشاد إسرائيل أنه ما زالت هناك حاجةٌ لورقة التوت التي اسمها القضية الفلسطينية، إذ تؤكّد الدول الناشطة في استقبال نتنياهو وأفيغدور ليبرمان وغيرهما (مدير عام الخارجية الإسرائيلية السابق، دوري غولد، زار تشاد في 2016)، دعواتها الرتيبة إلى إقامة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعدم حماسها لقصة القدس عاصمةً لدولة الاحتلال، ما قد يعود إلى إرثٍ ثقافيٍّ في إفريقيا، يرفض إسرائيل في أرض فلسطين، وهناك حساسيات الأفارقة المسلمين في هذه المسألة، فضلا عن أن شيئا من الالتزام الروتيني بقرارات الاجتماعات الدورية لتكتل الاتحاد الإفريقي. وهذا إدريس ديبي وجد نفسه مضطرا إلى القول، في أثناء ضيافة نتنياهو له، إن تشاد تتمنّى تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويعرف نتنياهو، كما عرف سابقوه، بيريز وشارون ورابين مثلا، أنه ليس على هذا الكلام جمرك، لكنه (نتنياهو) يعمل، في الوقت نفسه، على كسر ما كان قد سمّاه، مرة، "التأييد التلقائي الأفريقي" للفلسطينيين في المؤسسات الأممية.
قال إدريس ديبي إن المصالح بين تشاد وإسرائيل كثيرةٌ جدا. ويمكن أن يقول رؤساء أفارقة آخرون القول نفسه بشأن بلادهم وإسرائيل. .. والأهم أن المصالح بين بلادهم وبلادنا العربية تتناقص. وهذا مما لا يجوز أن تُباغتنا به بهجة ديبي، بصحبة نجله، في ضيافة نتنياهو.