إفراجات تونس ... انفراجة أم تخبّط؟

16 يوليو 2023
+ الخط -

قرّرت دائرة الاتّهام في محكمة الاستئناف في العاصمة تونس، الخميس الماضي، الإفراج عن عضو جبهة الخلاص الوطني، شيماء عيسى، والمحامي الأزهر العكرمي، اللذين جرى سجنهما في فبراير/شباط الماضي، بتهمة التآمر على أمن الدولة، في قضية شملت شخصيات سياسية أخرى لا تزال رهن الاعتقال، مع رفض جميع طلبات الإفراج عنهم التي تقدّمت بها هيئة الدفاع في أوقات سابقة.

القضية مشتركة، يُفرج عن بعض متّهميها، ويُحتفظ بآخرين من دون تفسير أو توضيح من السلطات الحكومية أو القضائية التي يتّسم سلوكها بالتناقض والتضارب، ناهيك عن الصمت المتواصل الذي يميّزها، فلا يُسمع منها سوى صوت الأحكام التعسّفية والقرارات الرئاسية الجائرة في حقّ المعارضة والبلاد.

ليست المرّة الأولى التي تُناقض فيها سلطات الانقلاب نفسها، فبعيد إعلان الرئيس قيس سعيّد تفعيله الفصل 80 من دستور سنة 2014 وإعلان الإجراءات الاستثنائية بأيام، نفّذت وزارة الداخلية قرارات فرض الإقامة الجبرية على عدة شخصيات ومسؤولين من دون توضيح للخلفيات أو الأخطار التي يمثلها هؤلاء. وبعد سلبهم حرّيتهم لأشهر ووصمهم مجتمعيا وسياسيا، جرى إلغاء هذه القرارات في ظل تساؤلات متعدّدة عن أسباب اتخاذها والتراجع عنها. وتزامن ذلك مع تعدّد قرارات منع السفر في حق نواب برلمانيين وسياسيين وشخصيات عامة من دون أذون قضائية، إلى أن استطاع بعضُهم، إثر محاولات متكرّرة، من تجاوز عقبة الحدود المغلقة من دون تفسير، واستعادة حقهم في التنقل، بعد تعطيل مصالحهم وشؤونهم وتشويه أسمائهم. وتلت ذلك عملية خطف القيادي في حركة النهضة، نور الدين البحيري، والمسؤول الأمني فتحي البلدي في ديسمبر/كانون الأول من سنة 2021، واقتيادهما إلى جهة مجهولة، فيما أعلنت وزارة الداخلية بعد ذلك أنها وضعتهما تحت الإقامة الجبرية في أماكن لم تُفصح عنها. في قرارٍ كاد أن يودي بحياة البحيري الذي خاض إثره إضراب جوع وحشي، استوجب نقله وإقامته في أحد مستشفيات ولاية بنزرت شمالي البلاد، إلى أن أعلنت الوزارة ذاتها في شهر مارس/آذار 2022 إلغاء هذا القرار في حقّ نائب رئيس النهضة، من دون ذكر أي تفاصيل أو مستجدّات.

خلال استحواذ قيس سعيّد على كل السلطات وانقلابه الدستوري، تعدّدت الخروق والإنتهاكات السياسية والحقوقية

وفي السياق نفسه، تتنزّل الإفراجات المعلنة أخيرا، والتي تمثل حلقة من سلسلة التخبّط والارتجال، أو محاولة للتنفيس عن فضاء سياسي سيطرت عليه غيوم الظلم والاستبداد، ولا تعدو أن تكون هذه الخطوة سوى تمويه ساذج بعدالة مزيّفة، تسجن وتفرج عمّن تشاء، متى تشاء وكيف ما تشاء، من دون حقّ في السؤال أو التوضيح. كما لا يمكن وضعها في خانة التنازل أو التراجع عن نهج القمع والتسلط، فسجون قيس سعيّد لا تزال مكتظة بالمعارضين والسياسيين في قضايا وهمية، جرى فبركة بعضها واختلاق شهودها زورا. فكيف يأمل المتابع للشأن التونسي، ناهيك عن الفاعلين فيه، خيرا وعقلا من نظام يُفرج عن بعض المناضلين في القضية التي لا يزال بعض آخر فيها مسجونا بتهمها، من دون أدلة أو بيانات أو معطيات مختلفة، رغم مرور الأشهر والأيام.

خلال سنتين من استحواذ قيس سعيّد على كل السلطات في تونس وانقلابه الدستوري، تعدّدت الخروق والانتهاكات السياسية والحقوقية، سعيا إلى تشويه المعارضة وعزلها وإيجاد شمّاعات تنسُج عليها السلطة سيناريوهاتها المؤامراتية، بغرض التلاعب بالرأي العام ومزيد التضييق على مربعات الحرية وتكميم الأفواه. إلا أنها تغفل عن وقوعها المتكرّر في خيبات تناقضاتها الذي بات جليا للعموم، حتى من كانوا أنصار إجراءات سعيّد في الأمس القريب. فرغم تفرّده بالحكم وخنق الحياة السياسية والجمعوية في البلاد، إلا أنه لم يستطع أن يلبّي حاجيات الناس أو أن يثبت صدق ادّعاءاته تجاه خصومه الذين علّق عليهم كل التهم بالفساد، فلا أموال استُرجعت ولا عدالة تحقّقت ولا مشاريع نُفّذت أو بُرمِجت، كل ما في الأمر قضايا مُعلّقة، معارضة تملأ المعتقلات، أحزاب مجمّدة النشاط وأخرى تحت الرقابة، ملاحقات للصحفيين والمدوّنين، طوابير طويلة أمام المحلات والمخابز ونقاشات تفوح منها رائحة العنصرية الكريهة تجاه الأفارقة الذين يجمعنا بهم الاسم والتاريخ والجغرافيا، كما توحّدنا مآسينا السياسية والترذيل الممنهج لأوطاننا من حكام اختاروا لعب دور الحارس لمصالح الضفة الأخرى.