إلى ريان
رحل الطفل ريان بعد خمسة أيام من سقوطه في بئر عميقة. لم ينقذه الاهتمام الكبير والاستثنائي الذي أولته السلطات المغربية. ولم ينتشله التعاطف الواسع الذي تجاوز الحدود بكثير. ولم يكن لجرعةٍ أقل من المؤازرة أن تمسح الحزن عن ملايين الأطفال الآخرين العالقين أيضاً تحت القصف والتعذيب والفقر والجوع والبرد والخوف والحصار والابتزاز.
تلخّص هذه الحقائق الثلاث بعض أزماتنا. طفل يسقط في بئر في منطقة نائية ومهمّشة، تبذل السلطات المحلية جهوداً استثنائية، رافضة طلب المساعدة، يتناقل الشارع العربي الواقعة المؤلمة فيوحّدهم الهمّ والانتظار الشاقّ، هذا التعاطف الواسع والنادر يصيب بعضهم بغصّة فيتنامى لديه الإحساس بالظلم.
الحزن كان ثقيلاً لكنّه مفرّغ من معناه وناقص، إذ مُنع من أن يقترن بالغضب
ماذا كان سيحدُث لو بذلت السلطات قدراً بسيطاً من هذه الجهود في وقت سابق، قبل أسابيع أو أشهر أو حتى قبل أن يولد ريان؟ ماذا لو أنّها التفتت إلى المناطق النائية والمهمّشة والغارقة في العزلة والفقر وقلّة الحيلة؟ إلّا أنّ هذه الصيغة في منطقتنا لا تتعدّى الحلم. الـ"ماذا لو؟" تفترض أنّ السلطات لم تكن على درايةٍ بهشاشة تلك المناطق الشاسعة، فأهملتها بغير قصد. كما تفترض أنّ هذه الفاجعة ستغيّر التاريخ والجغرافيا، ستقيل مسؤولاً وستحاسب آخر وستعمل فوراً على تنمية كلّ المناطق الهشّة الأخرى. كان لفاجعةٍ كهذه أن تُشعل الشارع في بلد ديمقراطي، حيث القوانين والقضاء المستقلّ والحقوق والحريات والمحاسبة. هي ليست فقط لم ولن تشعل الشارع، هي أيضاً اشترطت على الأفراد مهمّة إضافية مرهقة، حتى وإن خرجت من منطقة اللاوعي الجمعي. إرفاق الحزن والابتلاء بآيات الشكر والطاعة. شكروا السلطات على مساعيها في إنقاذ طفل يبلغ خمس سنوات. وفي رسائل الشكر والامتنان تلك إيحاءٌ مبطّن وغير واعٍ أيضاً بأنّ السلطات وهبتهم تلك المساعي، وبأنّ عملية الإنقاذ ليست واجباً وطنياً ينتمي إلى الحدّ الأدنى من معايير حماية المواطن وصيانة حقوقه. وتضيع الـ"ماذا لو؟" وتضلّ طريقها إلى وعي الأفراد. وكأنّ النزهة التي أودت بريان إلى قاعٍ سحيق كانت قدره. وكأنّ عائلته هي المسؤولة عن ذلك السقوط، ومع ذلك استعجلت الجرّافات في المجيء، وتجمّع عشرات العمّال وتجمهر أبناء شفشاون وضواحيها لتقديم المساعدة. تُرفع القبّعة لجهود العمّال وسكّان المناطق المحيطة. عشرات من بينهم لم تغمض لهم عين طوال الأيام الخمسة تلك، وحدهم ربما يستحقّون الشكر والامتنان، وإن كانت تلك العمليات جزءاً من عملهم وواجبهم، إلّا أنّهم حفروا في الصخر وكرّسوا كلّ حواسهم للوصول إلى ريان، على الرغم من الإمكانات المحدودة المتوفّرة لديهم. نعم، ليس الاعتراف بمحدودية الأدوات وضعف التقنيات خيانة وطنية ولا تحاملاً ولا إجحافاً ولا جحوداً. رحل ريان وحيداً، ضاقت صدورنا مع افتقاده الأوكسجين وتخدّرت أطرافنا مع عجزه عن تحريك جسده والدفاع عن حياته التي أنهتها نزهة بالقرب من بيته. الحزن كان ثقيلاً لكنّه مفرّغ من معناه وناقص، إذ مُنع من أن يقترن بالغضب. لا بل استبدل الغضب بشكر الجهود التي في النهاية، وعلى الرغم من كلّ شيء، انتشلت ريان مغمض العينين في نومه الأخير، واستبدل أيضاً بالفخر بالاستجابة السريعة وتكريس المعدّات المتوفّرة والعتاد لإنجاز مهمّة لم تنجح! ثم غطّى خبر تعزية السلطات العائلة على خبر الفاجعة نفسها. مرة ثانية، يوحي إعلان خبر التعزية أنّها غير اعتيادية واستثنائية وخارجة من مكانٍ غريب عن سلوكها الاعتيادي. ويتحوّل أي نقد للسلطة التي فشلت في مساعيها إلى خيانة ومسّ بالوطنية وتشكيك في النيات، وكأنّ الوطن حفرة وجرّافة.
المنطقة النائية والفقيرة والمهمّشة، حيث سقط ريان، هي نسخة من مناطق أخرى كثيرة منسيّة في العالم العربي
أما عن التضامن الواسع الذي تسلّل بسرعة خاطفة من حدود شفشاون والمغرب، وسهّلت طريقه إلى البلدان العربية تقنيات التواصل، فهو يستحقّ التأمّل. المعنيّ بالتضامن والتعاطف، طفل في الخامسة يمثّل ملايين الأطفال في العالم العربي. وعائلته المتواضعة بإمكاناتها المحدودة تمثّل أيضاً ملايين العائلات في العالم العربي. المنطقة النائية والفقيرة والمهمّشة، حيث سقط ريان، هي أيضاً نسخة من مناطق أخرى كثيرة منسيّة في العالم العربي، حيث باستطاعتنا لو توفّرت الشفافية والبيانات أن نحصي عدد من يسقط في حفرة أو بئر كلّ دقيقة. وليس من الخبث القول إنّ عمليات الإنقاذ لم تكن ربما لتمتلك الإيقاع الدؤوب هذا لولا انشغال العالم بقضية ريان، ولولا المتابعة الحثيثة لأدقّ تفاصيلها والتقاط وسائل الإعلام أنفاس الطفل المتسارعة والمتعبة. وقد يلمع السؤال في مخيّلة الكثيرين للوهلة الأولى: ماذا لو انشغل العالم بقضايانا كما انشغل بقضية ريان؟ والكثيرون هنا ينتمون غالباً إلى شعوب مقهورة ومهمّشة، أتعبها الظلم وأصابها الخوف بالشلل، وأفقدها غياب العدالة والمساواة حلمها في مستقبل أقلّ قتامة. شعوب هُجّرت من بيوتها ومناطقها وبلدانها، أو هاجرت بخاطرها وهربت بأيّ طريقةٍ متاحة، وإن كلّفها ذلك الهروب كلّ ما تملك من مدّخرات وذكريات. شعوب مطالبة هي الأخرى بأن ترفق حزنها وبأسها بالشكر والامتنان. وشعوب معدَمة، نهبتها حكوماتها ومليشياتها وابتلعت الأخضر واليابس. هذه الـ"ماذا لو؟" أو "لماذا تعاطفوا معه وليس معنا؟" تنتمي أيضاً إلى الشعور المتنامي بالمظلومية وليس الظلم فقط. مظلومية متوارثة تناقلتها أجيال عاجزة عن التغيير وعن اختراع الحلم. لم يبقَ لديها ولا حلم واحد. كلّ الأحلام الممكن تخيّلها، اخترعت سابقاً وسقطت في بئر هنا وحفرة هناك وزنزانة وقبر. وإن أضاع كثيرون حلم التغيير وفقدوا قبلها بيوتهم وأوطانهم، تمسّكوا بصفةٍ وحيدةٍ يصعب انتزاعها منهم أو تلافيها: الضحية. يميلون إلى مصادرة المأساة واحتكار الظلم والمهانة لأنفسهم. يضنّون بالقهر كأنّه نور أعينهم، ويمسكون بالإحساس بالغبن كتعويذة. لا نملك الحياة، لكنّنا نملك الموت. وإن فقدنا القدرة على إحصاء أحلامنا، رحنا نحصي عدد القتلى والموتى والمختفين والمدفونين تحت الأنقاض والمرضى والمصابين بالاكتئاب والإحباط والمشتّتين في أصقاع الدنيا. لن ننافس أحداً على الحياة، ولا على الإنجازات العلمية والفكرية، مجالات المنافسة محدودة هنا. الدمار والموت والبأس واليأس والقهر والفقر والإحساس بالفراغ.
التعاطف الكبير الذي رافق قضية ريان طبيعي وبديهي. ولو امتلك ذلك التعاطف جرّافة لانتشل ريان بكلّ تأكيد. والنظر إليه استثناءً خارجاً عن العادي، على اتّساع رقعته الجغرافية وعلى تنوّع طرق التعبير عنه، يشبه النظر إلى عمليات الإنقاذ هبة أو عطاء لا يستحقه عامّة الناس. ولّد الظلم والإحساس بالمظلومية عنفاً عميقاً يتلطّى وراء الكراهية حيناً واحتكار المأساة حيناً آخر. رحل ريان لكنّ عائلته ما تزال على قيد الحياة، تتلقى رسائل التعزية في منطقة نائية ومنسيّة بالقرب من شفشاون. لا الحزن المذيّل بالشكر ولا الكراهية ولا المظلومية ستسدّ فوّهة البئر.