إمبراطور العبث السوري ودراما التطبيع العربي
من ناحية المقاربة السياسية والواقعية الاجتماعية، لم يعرف العالم منظومةً حاكمة أغرب ولا أفظع، بكلّ ما عَلِق بها من شوائب، وما أثير حولها من زوابع وأقاويل، من نظام الأسد الذي يجسّد جموعَ الأضداد الكشفية، حين تمشي نحو أقصاها، لتنتهي إلى العبث المطلق، بحكم أنه لا يتقن سوى فنّ التحديق الماكر في جسد العدم. هو المختبئ وراء الدبابات وفيالق المرتزقة والمنافقين، يزيّنون له سوء أعماله، فيجعلون المعاصي قربات، والجرائم طاعات. نظام قمعي قائم على مذابح لا تحمل رموزاً بحاجةٍ لفكّ تشفير، بقدر الحاجة لتفكيك وحشية أسياده أنفسهم ومحاكمتهم عن كلّ مأساة لحقت بالسوريين. بمعنى أوضح .. جاء هذا النظام ليكون التجسّد الحقيقي لعبارة "كاليغولا" الشهيرة مهدداً شعبه: "سأكون لكم بديلاً عن الطاعون".
وعليه، جاء الخراب السوري اللامتناهي تالياً لبلوغ الأسد الابن أقصى درجات فشله السياسية، بعدما شاء طالعه أن يعيش، طوعاً أو كرهاً، على خطوط النار التي أشعلها والده. وحول مصطلح "النظام المذبحة" يقول أفلاطون في كتابه الفلسفي السياسي "الجمهورية": "من يذق بلسانٍ وفمٍ دنسين دماء أهله، من المحتّم أن ينتهي به الأمر إلى أن يصبح طاغية ويتحول إلى ذئب". أدلّ مثال على هذا شهادة الصحافي البريطاني، روبرت فيسك، بعد زيارته حماة المنكوبة خلال ثمانينيات القرن الماضي "في حماة، تمّ قمع الانتفاضة الشعبية بقساوةٍ نادرة في التاريخ الحديث، لقد غزا نظام الأسد المدينة بمثل ما استعاد السوفييت والأميركيون برلين، ثم أُجبر الأحياء على السير في مظاهرة تأييدٍ للقتلة!". صراحة أو ضمناً، هذه هي عقلية النظام السوري التي تنزلق إلى تطرّفٍ عصابيّ يفضح الذهنية المريضة للطغاة، نظام ما إنْ توفرت له ظروف التمكّن حتّى قدّم درساً للجميع مفاده "لا ضير، إنْ اقتضت المصلحة، من مصافحةِ ديكتاتورٍ يلوّح بسواطيره كما لو كانت دمى مسليّة في مجلس التهريج العالمي".
بالتساوق مع ما تقدّم، ورغم إظهار وكالة الأنباء الروسية RIA FAN في إبريل/ نيسان 2020 أنّ 31% فقط من السوريين في "مناطق سيطرة النظام" يوافقون على الأسد، نرى اليوم تدافعاً عربياً للتطبيع مع هذا النظام منتهي الصلاحية، في محاولةٍ "لأنسنته" عبر الشقوق التي أحدثتها كارثة زلزال فبراير المنصرم. تحرّكٌ يرتبط بخريطة التموضعات الإقليمية الجديدة، والتنافس بين دولٍ عديدة على أدوار سياسية واقتصادية في مرحلةٍ يستمرّ فيها الانكفاء الأميركي عن بعض ملفّات المنطقة الساخنة. بطبيعة الحال، تبقى الجهود العربية مرهونة بشكل علاقاتها مع كلّ من إيران وروسيا والولايات المتحدة وتركيا. على سبيل المثال، أيّ تحسّن في الاتفاق المبرم بين الرياض وطهران سيكون دافعاً لتحقيق مزيدٍ من التقدّم في الانخراط العربي بالحلّ في سورية. كذلك، رفع العقوبات الغربية عن النظام أو منحه أيّ استثناءاتٍ سيكون مرتبطاً بمدى قناعة واشنطن بجدوى الخطوات المتّخذة إزاء تعديل سلوكه، وسط مطالبة مشرّعين أميركيين الرئيس بايدن برفض إعادة الأسد إلى عباءة المجتمع الدولي، ما لم تحصل إصلاحاتٌ ذات مغزى، مؤكّدين أنّ الموافقة الضمنية على التعامل الدبلوماسي الرسمي مع نظامه الدموي تشكل سابقة خطيرة للمستبدّين الذين يسعون إلى ارتكاب جرائم مماثلة ضد الإنسانية.
لا أبو ظبي ولا الرياض تملكان قواتٍ عسكريةً في سورية، تدعم محاولاتهما لعب أدوار مفصلية فيها، ولا طهران، في المقابل، في وارد التراجع عن نفوذها هناك
في هذا الوقت، نشرت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية مقالاً للكاتبة اللبنانية كيم غطاس، التي أكّدت أنّ "ما يجري في السودان يحمل درساً للمسؤولين العرب الذين يشقّون طريقهم إلى دمشق. إذ إنّ المساومة مع الطغاة، سواء كانوا جالسين في قصر رئاسي أو يرتدون ملابس عسكرية، من دون قوة أو ردع أو محاسبة، هي مسألة محكوم عليها بالفشل". في السياق، يرى مركز ستراتفورد الأميركي للدراسات الاستراتيجية والأمنية أنّ التطبيع مع الأسد يثبت، بعد المحاولات الفاشلة لإطاحته، صواب الأخير في التعامل مع انتفاضة بلاده، وربما يتحوّل إلى دليلٍ دامغ على أنّ القوة خيارٌ صالح للغاية لقمع التهديدات الشعبية ضد الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط، كما يضع أنموذجاً لكيفية النجاة حتّى في أسوأ سيناريو لانتفاضةٍ شعبية شاملة.
برزت مقولتان تفسّران "حمّى" التطبيع العربي مع طاغية دمشق. تصبّ الأولى في بلورة مبادرة حول سورية تتضمن إحياء المفاوضات المباشرة بين المعارضة السورية والنظام لكتابة دستور جديد، والتمهيد لانتخابات برلمانية ورئاسية، وهذه مثلت لسنوات وجهة النظر السعودية. وتعكس الأخرى مواصلة الإمارات محاولاتها تعويم بشّار الأسد ونظامه، وهذه المرّة من بوابة الزلزال المدمّر. فعلياً، لا أبو ظبي ولا الرياض تملكان قوات عسكرية في سورية، تدعم محاولاتهما لعب أدوار مفصلية فيها، ولا طهران، في المقابل، في وارد التراجع عن نفوذها هناك، ولا الأسد يتجرّأ أصلاً على تحجيم الدور الإيراني الذي يدينُ له جزئياً بالنجاة.
أول المستفيدين من عزلة الأسد هو الأسد نفسه، الذي وجد نفسه يختلي مع البلاد أخيراً، لا حسيب ولا رقيب
أضف إلى ذلك، لن تقبل تركيا بإخلاء الشمال السوري من دون "تسوية" مُرضية لها للمسألة الكردية، ولا ننسى بالطبع ترسانة العقوبات الأميركية والأوروبية، مضافةً إلى العقوبات المفروضة لأسبابٍ أوكرانية على روسيا ونووية على إيران وتداعياتها السياسية سورياً...، يعرقل ذلك كله مسيرة التطبيع الناجح مع دمشق. على التوازي، تطرح هذه المعطيات المعقدة أمام الأسد تحدّيات كثيرة، لعلّ أبرزها، أنه لن يستفيد مادياً ولا سياسياً من التطبيع، فمادّياً تبدو تجارة الكبتاغون أكثر ربحية له رغم مخاطرها. أما سياسياً، ليست مجازر النظام الموثقة صفحة لتُطوى، فتاريخُه الأسود يشوّه مَن يقترب منه، وحقوق ملايين السوريين المعادين لمنظومةٍ كهذه تجاوزت كلّ حدود الإجرام، تحرمه من أيّ جني سياسي حقيقي.
جديرٌ ذكره، ثمّة فريقٌ يحرص على تصدير بروباغندا إعلامية و"بحثوية"، للتغطية على الهزيمة اللئيمة في سورية. ورغم نعت النظام السوري بالجثة الهامدة سياسياً ولا قيامة لها، يعلّل حماسه لمصافحة الديكتاتور بأنّ السياسة تتطلب القبول بما هو ممكن، وأنّ القبولَ بالمفسدة الأقل في عالم كبير ومجرم أساساً حكمةٌ بالتأكيد. ويؤكّد فريق مناوئ أنّ التطبيع في القاموس العربي كان حكراً على إسرائيل، واليوم يشمل النظام السوري، بحكم أنّ حليفه الإيراني حصد مكاسب كبيرة في المنطقة، ومع الانكفاء الأميركي، يجب التعايش مع الواقع الراهن والتفاعل معه.
ومهما كان من أمر هذا الفريق أو ذاك، لا مبالغة في القول إنّ أول المستفيدين من عزلة الأسد هو الأسد نفسه، الذي وجد نفسه يختلي مع البلاد أخيراً، لا حسيب ولا رقيب، هو الذي عندما سُئِل عن قتل عشرات آلاف الأطفال الأبرياء في بلاده خلال الحرب، أجاب ضاحكاً: "أنام وآكل جيداً وأمارس رياضتي وعملي بشكل معتاد". لذا يعلم الجميع أنّ بشار الأسد استثناءٌ فارق بين الطغاة، فهو إمبراطور العبث، مستعدٌّ لتجاوز أقصى حدود التطرّف للحفاظ على كرسيه المقدّس. لا لشيءٍ، سوى لإيمانه المطلق بأنّ التسوية السياسية ستؤدّي إلى سقوطه المدوّي، لأنه ببساطة لا يتمتّع بشعبيةٍ كافية لنجاته حتّى داخل حاضنته الموالية. وعليه، لا يجد حرجاً من التلاعب كي ينام بسلام داخل البئر العميقة التي ألقي فيها، بعدما غدا أشبه بـ"كاليغولا"، طالبُ الأضداد والمستحيلات الذي تمنّى يوماً لو أنّ الشعب الروماني برأسٍ مشترك ليقطعه بضربةِ سيفٍ واحدة.