إمّا اليمين أو اليمين في رئاسيات فرنسا
انتهت رئاسيات فرنسا، في دورتها الأولى، إلى مجابهة، يوم غد 24 إبريل/ نيسان، في الدورة الثانية، بين اليمين الوسط وأقصى اليمين واليمين المتطرّف، ما سيجعل الفرنسيين أمام معادلة من احتمالين أحلاهما مرّ، حيث عليهم الاختيار بين التّجديد للرئيس إيمانويل ماكرون الذي أفقرهم أو المجيء بمارين لوبان التي ستذهب بهم نحو شبه حرب أهلية بين مواطنيهم، ما يستدعي تحليلا لسوسيولوجيا الانتخابات التي جرت ومآلات ما سيجري في الاستحقاقات المقبلة، وفي مقدمها تشريعيات مسبقة اعتادت فرنسا عليها في أوّل قرار لساكن الإليزيه بعد الإعلان عن فوزه في الانتخابات.
كان الجميع ينتظر النتيجة التي آلت إليها الدورة الأولى باعتبار أنّ كلاّ من اليمين واليسار (على التّوالي، الحزب الجمهوري والحزب الاشتراكي) خسرا قاعدتيهما الانتخابية لصالح الأقطاب السياسية الثّلاثة التي أبرزها الفرنسيون في تصويتهم، أقصى اليسار ("فرنسا الأبية" وقائده ميلونشون)، اليمين المتطرّف ("التّجمّع الوطني" لمارين لوبان ونحو 7% للمرشّح ايريك زيمور) واليمين الوسط ("الجمهورية إلى الأمام"، حزب الرّئيس المنتهية عهدته، ماكرون).
انطلاقا من هذه الحقيقة في انقسام الجسم السياسي/ الانتخابي الفرنسي، فانّ الاستراتيجيات الانتخابية بالنّسبة للمرشّحين المتأهلين، من ناحية، وللخاسرين ولكن بنسب مؤثرة، ميلونشون اليساري وزيمور اليميني المتطرّف، بصفة أقل، من ناحية ثانية، تأكّدت من خلال الخطب التي ألقاها الكل بعد إعلان أولى النتائج (تقديرات مراكز استطلاع الآراء بالنسبة للتوجهات العامة للنتائج، وفق النظام الانتخابي والتّصويتي في فرنسا)، وهي تتراوح بين الدعوة العامة إلى التصويت لصالح المشروع الجمهوري الذي يحمله الرئيس المنتهية عهدته، ماكرون، باعتباره الحائل دون صعود اليمين المتطرف إلى الحكم في فرنسا أو التصويت للمرشّحة اليمينية، والتي لم تحظ إلا بتأييد مرشّح وحيد هو زيمور.
عمل ماكرون على استهداف أسس القيم السياسية الفرنسية التقليدية المتكونة من اليمين، اليسار واليمين الوسط
بديهي أن تلك الدعوات لا تخلو من خلفيات استراتيجية لها صلة بالتشريعيات المقبلة، وكيفية الاستفادة من التأييد، والتي يحظى بها، هنا، مرشّحان خاسران فقط، ميلونشون الذي حاز قرابة خمس الأصوات، ليكون هو واجهة اليسار القادم مع بقايا الشيوعيين والاشتراكيين، إضافة إلى الخضر (أنصار البيئة)، كما يريد زيمور بناء حزب يميني متطرّف والاستفادة من زخم النّسبة التي نالها للفوز بمقاعد في الجمعية الوطنية المقبلة قد تخوّل له، في حالة ائتلاف حكومي، الحصول على حقائب وزارية أو، على أقل تقدير، الاستمرار في اجترار مواقفه من إشكاليات الهجرة، الهوية، الإسلام، والاستبدال الكبير التي كانت محور حملته الانتخابية في الرئاسيات.
حاول بعضهم، من خلال تلك الدعوات إلى التصويت في الدورة الثانية، رسم الصورة العامة لبرنامج ماكرون ولوبان، المتنافسين في الدورة الثانية، على غرار ما جرى في 2017، حيث انطلق الكلّ من حصيلة حكم ماكرون في السنوات الخمس الأخيرة، على الأصعدة كافة، وخصوصا على المستوى الاقتصادي، لتكون المحصلة أن الرئيس ماكرون لم يحقّق إنجازات الا لعالم المال والأعمال، بل ارتفعت، في عهدته، مؤشّرات عدم المساواة، وازدادت الهوة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة من حيث الدخل، الشغل والسكن، وهو ما استدعى ظاهرة "السترات الصفراء" التي عرّت البرنامج الاقتصادي لماكرون، وأبرزت وجهه الليبرالي المتوحش.
على المستوى السياسي، عمل ماكرون على استهداف أسس القيم السياسية الفرنسية التقليدية المتكونة من اليمين، اليسار واليمين الوسط، بل تقويضها، ليشكّل تيارا سياسيا هجينا، انتهى بنسق تلك القيم، حيث فشل التياران السياسيان، اليميني الجمهوري واليساري (الاشتراكي والشيوعي) من الصمود أمام تلك السياسات، وتكون النتيجة الفشل الذريع، حتى في الحصول على نسب معقولة لتيارات سياسية تقليدية (أقل من 5%)، ما يعني أن تلك القواعد لن تكون في البرلمان المقبل، وهو ما فتح الباب واسعا لتقدّم قيم سياسية يمينية متطرفة قادتها، تقليديا، لوبان مرفوقةً، هذه المرّة، باليميني الأكثر تطرّفا، وهو إيريك زيمور، ولكن بإشكالات غريبة عن الحسم السياسي الفرنسي، وموجّهة، تماما، إلى نسف الديمقراطية الفرنسية من خلال سياسات رفض الآخر والانفتاح على العالم، سياسيا واقتصاديا.
الحركية السياسية المقبلة، على خلفية التوجهات، كلها تعبير عن الرأي وحرية في التشكيل المستقبلي للساحة السياسية
تبيّن، من القراءة المتأنية في برنامج مرشّحة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، وفق الرّئيس السّابق فرانسوا هولاند، أنّه حامل لثلاثة تراجعاتٍ عن قيم فرنسا، تتعلق بمراجعة أسس الدستور الفرنسي الذي أقرّه الجنرال ديغول في 1958، أي تقويض أسس الجمهورية الخامسة، كما تقترح بإعادة النظر في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي باقتراح سموّ القوانين الفرنسية على القوانين التي تقرّها المفوضية الأوروبية (بروكسل) أو البرلمان الأوروبي (ستراسبورغ)، بل تذهب بعيدا في اقتراح مراجعة التحالفات الفرنسية الدفاعية مع حلف شمال الأطلسي، واعتبار روسيا الحليف الاحتمالي لفرنسا، مستقبليا.
بعد تحليل تلك التوجّهات الانتخابية لكلا المرشّحين واحتمالات التصويت لكليهما من التيارات السياسية المختلفة، خصوصا ميلونشون، زعيم "فرنسا الأبية"، وباعتبار أن التقليد السياسي الفرنسي المعمول به هو إجراء الرئيس المنتخب، فور إعلان النتائج، انتخابات تشريعية مسبقة، لتأكيد برنامجه أو التصويت لحكومة جديدة، فان الوجهة، الآن، هي لترتيب الصفوف لمعركة التشريعيات من خلال التفاوض على التّأييد لأحد المرشّحين كما يهيئ الكل نفسه للتغييرات التي أحدثتها وستُحدثها الانتخابات الرئاسية الحالية لإعادة بناء التيارات السياسية، مرّة أخرى، خصوصا على مستوى اليسار بقيادة جديدة لحزب "فرنسا الأبية"، وفق نتائج الدورة الثانية ونسبة مارين لوبان فيها، إعادة تنظيم اليمين، بكل توجُّهاته، لتشكيل تيارٍ يمكنه الصُّمود أمام اليمين الوسط الذي يسيطر عليه ماكرون، في حال فوزه، واليسار الجديد بزعامة ميلونشون.
بالنتيجة، تكون الساحة السياسية الفرنسية، أمام احتمالات ارتفاع تأثير اليمين المتطرّف وإمكانية حصوله على مقاعد كثيرة في الجمعية الوطنية المقبلة، ما سيرفع من وتيرة الدعوات إلى مراجعة الدستور الفرنسي، خصوصا في مسائل متعلقة بالهجرة، الجنسية الفرنسية والتعامل مع الأديان، وخصوصا الدين الإسلامي في المجال العام، كما سترتفع دعوات إعادة تشكيل علاقات فرنسا مع الاتحاد الأوروبي والحلفاء في الحلف الأطلسي، بما يعني أنّ التّغييرات السياسية في فرنسا ستكون عميقةً للأعوام المقبلة جرّاء النتائج التي تكون قد أفرزتها القراءة السياسية والسوسيولوجية للانتخابات.
ارتفعت، في عهدة ماكرون، مؤشّرات عدم المساواة، واتسعت الهوة بين الطبقات الاجتماعية
ينصبّ الاهتمام، هنا، على الصوت المغاربي والإسلامي، عموما، لأنّه الكفيل بتلطيف تلك التأثيرات، وجعلها أخف وقعا على الجاليات العربية والمسلمة في فرنسا التي شهدت توجّها يمينيا متطرّفا كبيرا وأكيدا، في الأعوام الأخيرة، وخصوصا على مستوى الإعلام، ولدى الطبقة المثقفة (اليمينية واليسارية) مع الإشارة إلى الاستثناء الذي شكّله حزب "فرنسا الأبية" لزعيمه ميلونشون من دفاعه عن التعدّدية الثقافية، بل ودعواته المختلفة إلى احترم الدين الإسلامــــي والهوية الثقافية للمهاجرين، وهو ما أكّدته النتائج التي أبرزت أن 69% من أصوات الجالية المسلمة ذهبت إلى ميلونشون، بما يعني أنّ المستقبل السياسي، في التّشريعيات المقبلة وفي التشكيل الجديد للسّاحة السياسية الفرنسية، سيكون بمرجعية الإستراتيجية التصويتية للدورة الثانية لميلونشون، من ناحية، وتوجّهاته بالنّسبة للمستقبل السياسي، من ناحية أخرى.
على الرغم من كل ما تقدّم، لا يملك القارئ لتلك النتائج والتوجهات السياسية المتولدة عنها إلا إن يبدي إعجابه بالديمقراطية عندما تفتح الباب، واسعا، للتعبير عن الرّأي السياسي، من دون إغفال أنّ الحركية السياسية المقبلة، على خلفية تلك التوجهات، كلها تعبير عن الرأي وحرية في التشكيل المستقبلي للساحة السياسية، وهو المطلب الذي يسعى إليه كل مواطنٍ لبناء منظومة عيشه على أسس الحرية، العدالة الاجتماعية وصدقية العقد الاجتماعي .. وتلك قصة أخرى، لعله يتسنّى حديث عنها، يوما، عندما تتاح الفرصة للوصول إلى تلك الحركية وتلك الأجواء من التشويق قبل الإعلان عن النتائج من دون، بصفة خاصة، القبول العام بها، من دون تشكيكٍ من أحد بمضمونها، ومن كل التيارات السياسية حتى المتطرّفة منها. .. إنها الديمقراطية في أبهى صورها.