إنجاز تتريّث الصين في تحقيقه
شكّلت زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى موسكو دعماً مهماً لنظيره فلاديمير بوتين، وفي ظرفٍ حساس، كان فيه الأخير يتعرّض لضغط معنوي، يتمثل بقرار محكمة الجنايات الدولية بحقه، وفي وقتٍ يتصاعد فيه الدعم الغربي لأوكرانيا، ويتواصل تحليق طائرات أميركية فوق البحر الأسود وعلى مقربة مما تعتبرها موسكو أجواء روسية، بينما تعتبرها واشنطن أجواء دولية، فيما توكل موسكو، ومنذ زهاء ستة أشهر، لمليشيات فاغنر التي لا تتقيّد بقواعد الحرب مهمّة السيطرة على مدينة باخموت، حيث يقلل زعيم هذه الفرقة من خسائر قواته، إذ تكاد تقتصر، على حد قوله، على السجناء الذين جرى زجهم في هذه الحرب. في هذه الظروف، جاءت زيارة الرئيس شي كاشفة عن دعم صيني أكيد لموسكو. وإلى التعاون الاستراتيجي متعدّد الأوجه الذي تطمح إليه موسكو مع بكين، اتسمت الزيارة بأجواء احتفالية بالضيف الاستثنائي الذي أنعم على قادة الكرملين الشعور بأنهم ليسوا وحدهم في مواجهة الغرب، وإن كان الضيف لا يشجّع على الذهاب بعيدا في الحرب، ويمتنع عن مدّها بأسلحة فتّاكة، مع تحذيرها من مغبة المضيّ في التهديدات النووية.
لقد اجتمع شي ببوتين مرّتين في الزيارة، وتحدّثت التقارير عن مباحثات صريحة بين الرجلين، وهو تعبيرٌ يُقصد به عرض أوجه الخلاف، إضافة إلى أوجه التعاون. وبينما أظهر الضيف الصيني مبادرة بلاده السلمية باحتشام واقتضاب، فقد عبّر بوتين عن خلافه مع المبادرة بطريقة دبلوماسية، ذكر فيها أن بلاده تتفق مع ما ورد في بعض بنود المبادرة، مُلقياً الكرة باتجاه الغرب الذي يرفض التفاوض كما قال. وكلام سيد الكرملين ليس خاطئا تماما، فقد اعتبرت واشنطن المبادرة فاقدة للمصداقية، ولم تتحمّس لها ألمانيا وبريطانيا، غير أن الصحيح، بعدئذ، أن بكين لم تبذُل جهدا لتسويق المبادرة، أو شقّ الطريق وتهيئة الظروف كي يجرى التعاطي مع الجهد الصيني بإيجابية، ولم تنشط الدبلوماسية الصينية للتباحث في هذا الأمر مع العواصم الغربية. والأهم من ذلك، استنكاف بكين عن القيام باتصالات مع كييف التي تتعرّض للحرب، رغم طلب المسؤولين الأوكرانيين ذلك. وبينما تشدّد مبادرة الصين على حماية المدنيين والمرافق المدنية، فإن الطرف الذي يُمنى شعبه بالخسائر نتيجة الاعتداء عليه، وهو الطرف الأوكراني، لا يحظى بتواصل من أصحاب المبادرة، علماً أن الاتصالات الصينية الأوكرانية لم تكن مقطوعة قبل اندلاع هذه الحرب. وتتجه الأنظار الآن إلى لقاء قمة غير مباشر، من المقرّر أن يجمع الرئيس الصيني بنظيره الأوكراني فلاديمير زيلنسكي، وإذا جرى هذا الاجتماع، فسوف يمثل نقلة مهمة في سياسة "الحياد" الصينية، أو ما تعتبره بكين موقفا موضوعيا ومنصفا اتخذته حيال هذه المواجهة.
بينما تشدّد مبادرة الصين على حماية المدنيين والمرافق المدنية، فإن الطرف الذي يُمنى شعبه بالخسائر نتيجة الاعتداء عليه، وهو الطرف الأوكراني، لا يحظى بتواصل من أصحاب المبادرة!
معلومٌ أن الصين، بما تمتلكه من دالّة على موسكو، هي الطرف الدولي الأكثر تأهيلاً لأداء دور يطفئ هذه الحرب. وقد عمدت إلى التقدّم بنصف خطوة إلى الأمام، عبر إطلاق مبادرتها، تاركة للأطراف أن تتفاعل معها، في وقت تتعايش بكين من طرفها مع هذه الحرب، فقد جرت القمة الروسية الصينية في أجواء توحي بأن الحرب في أوكرانيا لم تقع بعد، وإذا كانت قد وقعت، فإنها تمثل وجهة نظر روسية تستحقّ الإصغاء إليها ومناقشتها.
لقد آثرت الصين أن تحقّق أولاً اختراقا يمُس المعادلات الإقليمية والدولية بإنجازها التقارب بين الرياض وطهران، على أن تُسرّع جهدها لوقف الحرب في أوكرانيا، إذ ينقذ هذا الإنجاز طهران من عزلتها، ويقرّب الرياض من بكين، ويحدّ، في النتيجة، من النفوذ الأميركي والغربي في المنطقة. وهو تغييرٌ على جانب من الأهمية، يوفر لبكين فرصة الضغط على مراكز الأعصاب الغربية، كي تتعاطى بإيجابية مع المبادرة الصينية، غير أن هذه المقاربة، على أهميتها، لا تضع في الاعتبار أن التريث في دفع المبادرة إلى الأمام يحرم الصين من أداء دور بالغ الأهمية في إطفاء أكبر الحروب وأشدّها خطورة في عالمنا، فمن المنطقي والموضوعي أن تبدي بكين حماسة أكبر في شقّ الطريق لتهيئة القبول بالمبادرة وإرساء أرضية للتفاوض بشأن إيقاف الحرب، والسعي إلى ترجمة المبادئ الواردة في المبادرة، عبر خطواتٍ متوافقٍ عليها، وذلك لكون المبادرة تتمحور حول جملة مبادئ مترابطة، بأكثر من انصرافها إلى وضع خطة لإنهاء الحرب ووقف تداعياتها.
الصين، بما تمتلكه من دالّة على موسكو، هي الطرف الدولي الأكثر تأهيلاً لأداء دور يطفئ الحرب في أوكرانيا
ولا شك أن الرئيس شي، وبعد اختتام زيارته موسكو، قد تبلغ وناقش تحفّظات الكرملين على المبادرة، والتي تُضاف إلى التحفظات الغربية، ما يضع عقبات أمام المبادرة، ويفرض على بكين بذل جهد دبلوماسي أكبر، إذا أرادت للمبادرة، بصيغتها الحالية أو بصيغة معدّلة، أن ترى النور، ولعل مباشرة الاتصالات مع كييف تمثل أفضل برهان على جدّية أصحاب المبادرة في طرحها، علما أنها المبادرة الأولى عالميا التي طرحت من أجل رؤية نهاية للحرب على أوكرانيا، وهي أيضا المبادرة الوحيدة التي يملك أصحابها أن يلقوا بثقلهم الذي يملكونه من أجل إنجاحها.
وواقع الحال أن أطرافا عديدة في عالمنا تتوق إلى وضع نهاية لهذه الحرب الكارثية، بمن فيهم الصين نفسها، فشريكها الروسي يتعرّض للاستنزاف اليومي، رغم مكابرته، فيما تحتاج الصين، الصاعدة على مستويات عدّة، إلى صعود معنوي تعيد فيه تشكيل صورتها طرفا دوليا أساسيا لا ينصرف إلى تحقيق طموحاته القومية الفائقة فحسب، بل تعنيه قضية السلام في العالم، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، إلى جانب حقّ الدول في احترام الآخرين سيادتها، لا فرق في ذلك بين دولة صغيرة وكبيرة.
وسوى ذلك، فإن انطباعات وتقديرات أخرى قد تسود وتلقى قبولاً، ومفادها أن بكين أرادت من المبادرة إطلاق حملة سياسية لإبداء حسن النيات، والتأشير مجدّدا إلى ما تعتبره حيادها، وأنها تعتبر صراعها مع أميركا والغرب، وتسجيل نقاطٍ لصالحها في هذا الصراع، يتقدّم حالياً في الأهمية على إيقاف حرب أوكرانيا، كما أن دعمها الواسع موسكو في ظروف الحرب يمثل انحيازا للطرف الذي أشعل الحرب.