إنها اتفاقية القسطنطينية يا جهلة!
استقبل ميناءٌ مصري السفينة الألمانية كاثرين، المحمّلة بموادَ متفجّرة لدعم العدو الصهيوني. الخبر ثابت، وبالأدلة، فضيحة أصابت المصريين بصدمة حقيقية، وجاء الردّ الرسمي ليزيد طين الصدمة بِلّة، إذ اكتفى النظام في بياناتٍ مقتضبة بالنفي، نفي التعاون مع إسرائيل، ثمّ نفي وجود السفينة أصلاً، ثمّ نفي كونها ألمانية، ثمّ إثبات وجودها، مع تغيير وجهتها من إسرائيل إلى مصر.
بدا أن قطاعاً كبيراً من المصريين يتمنّى من النظام أن يقول، ولو كذباً، كلاماً مسكّناً، لكنّ أحداً لم يهتم. وفي اليوم التالي، انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يوثّق مرور فرقاطة عسكرية تحمل علم إسرائيل من قناة السويس. هكذا أمام أعيننا، وفي ظروف حرب وإبادة وتهديد وقح للأمن القومي المصري، جاء صوت إحدى المواطنات المصريات في خلفية الفيديو معبّراً عن ملايين المصريين: "يا ولاد الكلب... ده علم إسرائيل.. اتفووو عليكم"، ولم يحتج مصري واحد أن يتساءل من أولاد الكلب؟ ولمن "اتفووو عليكم"؟ ومرّة ثانية، يأتي الردّ المصري مقتضباً ومتعالياً، إضافة إلى حسّ كوميدي يُحسَد عليه أصحاب البيانات الرسمية، إذ عزا السيّد المسؤول في هيئة قناة السويس مرور الفرقاطة الإسرائيلية إلى اتفاقية القسطنطينية بين خديوي مصر، التابع للباب العالي العثماني، وملوك أوروبا، في القرن التاسع عشر (!).
تستنكر بعض الأصوات المسيّسة صدمة قطاع كبير من المصريين، ويشيرون إلى أنّ موقف النظام المصري ليس جديداً، وأن هذا هو المعنى من وراء "كامب ديفيد" و"معاهدة السلام"، أن تكون شريكاً لإسرائيل، وليس أقلّ من ذلك، والأمثلة كثيرة في عهدَي أنور السادات وحسني مبارك. تمادت بعض الأصوات المتطرّفة إلى حدّ اختراع تاريخ، لمزيد من توبيخ المصريين، والادّعاء بأن جمال عبد الناصر نفسه سمح بمرور السفن الإسرائيلية، وهو ما لم يحدُث منذ تأميم القناة عام 1956، وحتى توقيع معاهدة الاستسلام (1979). ردود أخرى جنحت إلى السخرية السوداء، وعبّر أصحابها عن شعورهم بالعار من أنهم مصريون، ودعا بعضهم إلى مقاطعة المنتجات المصرية، وهي انفعالاتٌ غير معقولة لتجاوز صدمة، هي في تقديري صدمة مستحقّة، فما يحدث من النظام المصري قد لا يكون جديداً في الطريق، لكنّه ألف جديد في الطريقة.
لقد جرت معالجة الصلح مع إسرائيل، في الداخل المصري، بوصفه ليس استسلاماً وليس انسحاباً، وإنما بديل سياسي من الحرب وكلفتها الباهظة التي لا يتحمّلها سوى المصريين، كرّر أنور السادات هذا المعنى غير مرّة، وتابعه في ذلك حسني مبارك طوال سنوات حكمه. لم ينعكس هذا الكلام الإنشائي في واقع سياسات الدولة المصرية، لكنّه ظلّ موجوداً في خطاباتها، وفي تمريرها، وأحياناً في تشجيعها التظاهرات المناهضة للكيان الصهيوني في الأحداث الكبرى، وفي خطاباتها الدينية، وفي خطاباتها الإعلامية، وفي ما تقوله السينما والدراما نيابة عنها، وفي نظم ولوائح نقاباتها المهنية التي تحرم من عضويتها من يتورّط في نشاط تطبيعي، خذّ مثلاً واضحاً ما حدث مع الكاتب المسرحي علي سالم، الذي دعا إلى التطبيع وذهب لإلقاء محاضرة في إسرائيل، فلفظته دوائر المجال العام في مصر كافّة، ولم يدافع عنه أحد إلى يومه الأخير.
حافظت الدولة المصرية على هذا التناقض لحماية نفسها من مواطنيها، فما الذي حدث الآن؟ ... سأكتفي هنا بنقاط ثلاث أساسية. الأولى توجّهات الكفيلَين الإقليميَين الإمارات والسعودية الداعمة لإسرائيل من ناحية، وصاحبة المصلحة المباشرة في القضاء على حركة حماس ولو على حساب قطاع غزّة كلّه. والثانية فشل النظام المصري في بلورة خطاب سياسي أو إعلامي يحافظ على المسافة بين الأقوال والممارسات، ويهدئ الشارع المصري، وهو الفشل الذي يبدأ من ضعف القدرات الخطابية لدى الرئيس نفسه، ثم يتجاوزه إلى أضعف منظومة إعلامية في تاريخ دولة يوليو (1952). أمّا الثالثة فهي خروج المصريين من معادلة النظام الحالي تماماً ونهائياً، فلا حاجة لإرضائهم، خاصّة على حساب إسرائيل، الحليف الرئيس، والداعم الإقليمي والدولي الأكثر أهمّية للنظام المصري الحالي.