إنهم يبيعون المستقبل

21 أكتوبر 2024

(نجيب لحريشي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

تباشر السلطة الحاكمة في مصر بيع أصولٍ وثرواتٍ منذ بضعة أعوام، وتحديداً منذ اكتمل تمكين تلك السلطة عبر مجالس نيابية صُنِعت على أعينها تخوّلها فعلَ ما تشاء، ثمّ تبارك ما تفعله بقوانين فُصِّلت لها تفصيلاً. ويساندها إعلام رجيف رهين رسالة في هاتف محمول. لكن ما وصلت إليه السلطة أخيراً تجاوز الحدود كلّها، وكسر سقف التوقّعات. إذ قوبِلت تحذيرات الخبراء والمتخصّصين في الاقتصاد والإدارة بتجاهل تامٍّ، بل وبتشويه وباتهام بانتماءات معادية وبامتلاك أجندات... وغير ذلك من تهم جاهزة لإلصاقها بأيّ صوت عقلاني في البلد.
يمرّ عام تلو الآخر، ولا جديدَ يلوح في الأفق، سلسلة متّصلة ومستمرّة من صفقات استجلاب الأموال بأيّ شكل، ومهما كان المقابل. فبعد أن توقّف ضخّ المنح والهبات لاستئصال "الإخوان المسلمين" وتثبيت أركان النظام الجديد القديم، انتهت أيضاً مرحلة الاستدانة بعد أن وصلت أعباءُ خدمة القروض إلى أرقام خرافية، ولم يبقَ من منافذ الاقتراض سوى أقلّ القليل ممّا يتعطّف به صندوق النقد الدولي، في دفعات لا تسدّ احتياجات المصري الفقير، ولا تردّ نهم السلطة الجشعة.
وفي العامَين الأخيرَين تحديداً، اندفعت السلطة في مصر إلى التخلّص من كلّ ما تحت يدها من أصول وعقارات وأراضٍ وشواطئ، سواء بالبيع أو بالتأجير أو بحقّ الانتفاع أو بالشراكة أو بأيّ شكل من أشكال جلب الأموال، عدا إدارة تلك الأصول وتوظيفها بشكل علمي واقتصادي يجعلها مصادرَ دخل قومي، مع الاحتفاظ بها ثروةً مملوكةً لمصر وللمصريين. المشكلة الجديرة، ولو بقليل من التفكّر في حال مصر وأهلها، هي ما بعد ذلك المسار الطويل من البيع والتنازل عن ثروات وأصول وكنوز يُفترَض أنّها ركيزةٌ لبناء المستقبل، ولو بعد حين.
وصل الحال في مصر إلى تأجير مطارات وبيع بنوك والاستيلاء على أراضي طرح النهر في شاطئ نهر النيل العظيم بمحافظة القاهرة (بطول حوالى 30 كيلومتراً) وانتزاعها من هيئات ومؤسّسات حكومية وعامّة، تشمل مقارَّ ومنشآتٍ تابعةً لجامعتَين حكوميتَين (القاهرة وحلوان)، وهيئات قضائية، ومسارح تابعة لوزارة الثقافة، وحدائق ومقارّ شرطية، وغير ذلك من مصالح خاصّة وعامّة. وليس من معنى وصول سجلّ المبيعات إلى هذا المستوى، سوى إفلاس عقلي قبل أن يكون فشلاً اقتصادياً.
لا حاجة إلى التذكير بأصوات جوقة جعجاعة كانت يوماً تطنطن بالسيادة والإرادة، وتولول خشيةً على الأمن القومي، فلم تعد تلك الأصوات تهمّهم أو حتّى تحدّث نفسها. لكن يجب الوقوف ولو للحظةٍ للتفكير في الغدّ وإجابة سؤال بسيط منطقي وحتمي؛ وماذا بعد؟ ماذا بعد الانتهاء من بيع كلّ شيء؟
لا أحدَ يطرح، ولو بكلام خيالي، ما بعد البيع. لا مسؤولَ واحداً يملك خطّةً واضحةً لتطوير أو تحسين الوضع في نطاق اختصاصه. لا يتعلّق الحديث هنا بمستقبل الصناعة أو الاقتصاد أو المشروعات الكُبرى التي تستهلك أموالاً ولن تدرّ عائداً، ولا عن المصانع التي أُغلِقت والعراقيل الضخمة التي يواجهها أيُّ مستثمرٍ يُفكّر في ضخ استثمار أو تأسيس كيان صناعي فقط، ولو على نطاق صغير.
ليس الحديث هنا عن المستقبل البعيد، بل عن القريب، بل والحاضر، عن كيف ومن أين سيدبّر المصريون بعد أشهر قليلة تكاليفَ الطعام والشراب والمواصلات والعلاج. والسلطة التي تبيع موارد المستقبل كلّها هي نفسها التي ترفع أسعار الخدمات والسلع، فتتضاءل الدخول أمام الغلاء المستمرّ والمتزايد. وبكل أسفٍ، فإنّ عوائد بيع مصر لا تعود على المصريين، لا في زيادة رواتب ولا في مخصّصات، ولا بتدشين صناعات أو مشروعات إنتاجية تدرّ أرباحاً، سواء بالعملة الأجنبية أو حتّى بالمحلّية. معنى ذلك أنّ أثمان ما يُباع تذهب إلى المجهول، ليواجه المصريون بدورهم مستقبلاً مجهولاً.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.