إيران... داريوس والعراق
إذا أراد أحدٌ تقسيم تاريخ إيران منذ الثورة الإسلامية في 1979 سيجد فصولاً داخليةً ذات أبعاد خارجيةٍ، وخارجيةً ذات أبعاد داخليةٍ، متداخلة زمنياً، غير أنّ المعيار الأساس للحراك الإيراني في الشرق الأوسط، أو "غرب آسيا" بحسب المصطلحات الإيرانية لتلك المنطقة، كان العراق. مع صدّام حسين، لم تتمكّن طهران من اختراق عمق الشرق الأوسط، ومع الأميركيين بعد غزو بغداد في عام 2003، أضحت إيران اللاعبَ الإقليمي الأكثر تأثيراً في الجوار، وبدا وكأن لا حدود لصعودها في مواجهة دول عربية قلقة ومتوجّسة، ودولة تركية تترقّب بحذر مآلات هذا الصعود. لكن، لا شيء يدوم، خصوصاً في الشرق الأوسط.
بالعودة إلى 1990، كانت شاهداً على اجتياح العراق الكويت، وما استُتبع في إحدى ظرفياته، بدعوة أميركية لسورية حافظ الأسد لـ"المشاركة في حرب تحرير الكويت عبر البوابة الشرقية لدمشق". كان الثمن تسليم لبنان لسورية. ظنّ السوريون أنّ في وسعهم الاستمرار ردحاً من الزمن، غير أنّ تحوّلات ثورة 2011 دفعتهم إلى الاستنجاد بالإيرانيين وحزب الله والروس وغيرهم من جنسيات ومليشيات، وصولاً إلى مرحلة بات فيه النظام السوري أشبه بلبنان جديد، مع العلم أنّ نموّ النفوذ السوري في الشرق الأوسط كان عبر البوابة اللبنانية، وبداية انحداره من علٍ كانت من هناك أيضاً.
إيران مسعود بزشكيان تعلم ذلك، وإن لم تتقبّله بعد. لم يكن حديث المُرشد علي خامنئي عن "تراجعٍ تكتيكيٍّ أمام الأعداء" عبثياً. يعلم الرجل أنّ ليس في وسعه الاستناد إلى أحد في لحظة تحوّل كُبرى. نماذج مثل الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا لا تزال ماثلةً في تاريخ ليس ببعيد. سعى بزشكيان في زيارته بغداد، الأربعاء الماضي، إلى محاولة تدارك ما يمكن أن يحصل لإيران من البوابة العراقية. من هناك تمدّدوا، ومن هناك سيعودون إنْ أخطأوا الحسابات.
لم ترتبط مسألة النفوذ وتمدّده قطّ بالعديد البشري ولا بالسلاح ولا بالجغرافيا (إلى حدّ ما)، بل بعاملَين أساسَين لا ثالث لهما، قدرة الدولة الساعية إلى النفوذ الإقليمي على مواءمة هذا التطلّع مع حاجات شعبها، وقدرة هذه الدولة على فهم طبيعة اللحظات السياسية حين تَحلُّ، وعلى التصرّف على أساسها، لا وفق قواعدها الخاصّة. البراغماتية أو المرونة أو الواقعية، في مثل تلك الحالات، تبقى أسلم بكثير من التشبّث بموقفٍ سيبدو جهلاً حين يُقرأ بعد سنوات في التاريخ.
إذا كان الإيرانيون حالياً يسعون لتدارك لحظة قد يتحوّلون فيها هدفاً دولياً عبر التراجع بصوت عالٍ من ساحات الشرق الأوسط، فإنّهم فعلاً قد تعلّموا من السلوكات الخاطئة للملك داريوس الثالث، المهزوم في بابل العراقية أمام الإسكندر المقدوني. لم يستوعب داريوس في حينه طموحات المقدونيين، واستخفّ عملياً بجرأة الإسكندر، واستُبيحت بلاد فارس وصولاً حتّى الهند. أمّا في حال نجاح الجناح المُتشدّد في إيران، تحديداً الحرس الثوري، في فرض مشيئته على الحكم السياسي، فلا يعني ذلك سوى انتحار جماعي لثورة قبل مرور نصف قرن على ولادتها.
لا يهمّ ما تحتاجه إيران أو الغرب في تلك اللحظة الشرق أوسطية، لأنّ ما يحتاجه كثيرون في الإقليم والعالم لن يحصلوا عليه. المسألة أعمق من الحاجات الظرفية قياساً إلى عنصرَي التاريخ والجغرافيا السياسية. طبيعة الصراع على الشرق الأوسط لم تهدأ منذ أن تعلّم البشر التجارة ورسموا خطوطاً تجاريةً لها، ثمّ طوّروها. لاحقاً دخلت القوميات والإثنيّات والدين في خطّ النزاعات في المنطقة، ما زاد من حريقها. المعضلة هنا أنّ الإيرانيين وصلوا إلى المكان الذي وصل إليه داريوس الثالث وصدّام حسين وبشّار الأسد، وما عليهم سوى التصرّف بعكس هؤلاء، سواء في الداخل، حيث يبدأ كلّ شيء، أو في الخارج عبر المدخل العراقي. إنْ لم يفعلوا ذلك، فلن يصعب تخيّل مستقبل إيران.