إيران و"تدجين" الداخل
تعيدنا الاحتجاجات الدائرة حالياً في إيران على فقدان المياه في أكثر من محافظة إلى تسليط الأضواء على الوضع المعيشي الكارثي في إيران، والناجم ليس فقط عن العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية، بل أيضاً عن المسار التوسّعي الذي تسير عليه هذه الدولة منذ ولادتها بعد "الثورة الإسلامية"، ما جعل غالبية مواردها تُصرف على فكرة "تصدير الثورة" وتأسيس أذرع عسكرية هنا وهناك، وهو ما كثفته في السنوات الأخيرة، رغم تردي الواقع الاقتصادي الداخلي، والذي أنذر أكثر من مرة باحتجاجات واسعة، تماماً كالتي تحصل حالياً.
لا يرضى النظام الإيراني بالاعتراف بهذا الواقع، ويرمي في الغالب كل التبعات على شماعة "الأعداء"، الداخليين والخارجيين، وعلى العقوبات المفروضة على النظام. العقوبات لا شك لها تأثير كبير على الوضع المتردّي، لكن الإهمال أيضاً أساسي في فهم كيف وصلت الأوضاع في إيران إلى ما وصلت إليه. يمكن ضرب مثال بمرحلة ما بعد توقيع الاتفاق النووي في عام 2014، والبحبوحة الاقتصادية التي نوعاً ما عاشتها إيران في المرحلة اللاحقة قبل تجميد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاتفاق. لم تستغل طهران فكّ تجميد مئات الملايين من الدولارات في تدعيم الوضع الداخلي، بل على العكس، عمدت إلى توظيف السيولة التي دخلت البلاد في مزيد من التوسع وتدعيم الأذرع العسكرية في سورية واليمن والعراق ولبنان.
وساهمت أزمة فيروس كورونا، والتي كانت إيران من أكبر المتضررين منها في المنطقة، في كشف ثغرات البنى التحتية في البلاد، ولا سيما في القطاع الصحي. فمن الواضح أن النظام الإيراني يرى أن الداخل بات مدجّناً على سنوات ما بعد الثورة. فالنظام حرص على إحاطته بالكثير من الأساطير والغيبيات التي من شأنها أن تجعله راضياً بالأوضاع القائمة. كذلك لم يتوان هذا النظام عن القمع لتكريس هذا التدجين وإخراس الأصوات التي اعترضت على فكرة تصدير الثورة أو على إهمال الداخل الإيراني، والالتفات إلى الخارج.
وللمفارقة فإن حلفاء هذا النظام يفضحون هذا الواقع. فالأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصرالله، خرج في أكثر من مناسبة ليتحدث عن استعداد إيران لتصدير مادة البنزين إلى لبنان وبالليرة اللبنانية (الأمر المستحيل اقتصادياً)، في محاولة للمفاخرة بالحليف الداعم، في ووقت تصطف طوابير من السيارات على محطات الوقود في طهران وغيرها من المناطق الإيرانية في ظل شح هذه المادة لغياب محطات التكرير، أو قلّتها، والذي يرده نظام الجمهورية الإسلامية إلى العقوبات التي حرمت إيران من إنشاء محطات تكرير نفطية، غير أنها لم تحرمها تطوير أنشطتها العسكرية ودعم أذرعها الخارجية وتطوير برنامجها النووي.
الاحتجاجات الأخيرة على أزمة المياه في بعض المحافظات الإيرانية تشير إلى أن عملية التدجين ليست كاملة، وخصوصاً أن الاحتجاجات تمددت إلى مناطق لا تعاني من أزمة المياه نفسها، غير أنها تشكو من قضايا أخرى. وهناك شواهد أخرى تؤكد أنه لا يزال هناك حراك كامن في الداخل الإيراني، من الممكن أن يتطور في أي لحظة، على شكل احتجاجات أوسع من الحالية. فأزمة البازار وما تبعها قبل عامين أظهرت حجم الاعتراض على سياسات النظام، خصوصاً من قبل التجار، وحينها ظهرت للمرة الأولى الأصوات التي تتحدّث عن أن الإيرانيين أولى بالأموال التي تصرف على لبنان والعراق واليمن وحتى غزة. الأمر الذي لم يكن مسبوقاً، ولا سيما أن التصور العام الذي سعى النظام الإيراني إلى تصديره هو أن هذا التوسع العسكري نابع من رغبة شعبية سعيدة بفكرة "مراكمة القوة". غير أنه كان المفترض أن تتزامن المراكمة في الخارج مع التحصين في الداخل، وهو أمر لا يبدو كاملاً.