إيران وحزب الله والخطاب الشعبوي العربي
هي حقيقةٌ، شئنا أم أبينا، أحببنا أم كرهنا، اعترفنا بذلك أم كابرنا؛ يقبع النظام الرسمي العربي، ومعه أمّة العرب، استتباعاً، في الهامش، لا أحدَ يهتمّ لرأينا، ولا أحدَ يَحسِب لموقفنا حساباً. لقد نجح النظام الرسمي العربي في شلِّ ذاته إرادياً، وإجهاض فاعلية شعوبه. المؤسف أنّ هذا الواقع الآسن أدّى إلى تبلور عقليةٍ تآمريةٍ، حتّى بين بعض النُخَب العربية، تُقارِب مواقفَ دولٍ وتيّاراتٍ أخرى، لنا خصومات معها، كإيران وحزب الله، ولكنّها أكثر ديناميكية منَّا وأكثر تأثيراً... تقاربها على أنّها تتحرّك ضمن أدوارٍ مرسومة لها مسبقاً، وأطرٍ مُتَّفقٍ عليها مع خصومٍ آخرين، وتحديداً، الولايات المتّحدة وإسرائيل. وهكذا، يصبح فشلنا مُعلَّقاً على مشجب المؤامرات الخارجية علينا فحسب، لا جرّاء تقصيرنا وغياب مشروعنا وتوهان بوصلتنا. أبعد من ذلك، تورّطت بعض النُخَب والمُؤثِّرين العرب في إشاعة "تحاليل سياسية" بعيدة عن المنطق والحقيقة، ولكنّها تضرب على وَتَر التحيّز والعواطف والشعبوية، وهم بذلك يزيدون الواقع العربي كآبةً فوقَ كآبته وعجزاً فوقَ عجزه. إذ ما دامت فاعلية الآخر، الذي نبغض، هي حصيلةُ مؤامرةٍ، وما دام ارتكاسنا نتيجةَ مؤامرةٍ فحسب، إذن، ليس في اليد حيلة، ويمكن لنا أن نُخلي ذممَنا من المسؤولية ونحن مطمئنو البال ومرتاحو الضمير (!).
تورّطت إيران، وحزب الله استتباعاً، في جبهات استنزاف افتعلاها في الإقليم أو تورّطا فيها، بناء على حسابات طائفية أو استراتيجية
يجد التأطير السابق تصديقاً له من التصعيد الراهن في المنطقة، بين إيران وحزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، على خلفية تمكن الأخيرة من تنفيذ عمليتي اغتيال ضدّ هدفَين كبيرَين. الاغتيال الأول، وقع في حقّ القيادي العسكري الرفيع في حزب الله، فؤاد شكر، في غارة جوّية على مبنى في حارة حريك بالضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت (30 يوليو/ تمّوز الماضي). ولم يكد يمضي يوم واحد حتّى كانت إسرائيل تغتال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنيّة، في قلب طهران، وفي مبنى شديد الحراسة يخضع لتأمين الحرس الثوري الإيراني. عمليتان بهذا الحجم، وضدّ هدفَين من هذا المستوى، يثيران أسئلة كثيرة، ليس أقلّها، حقيقة وجود اختراقات استخباراتية وأمنية كبيرة في كلّ من إيران ولبنان. لكن، بعض من يُصنَّفون في النُخَب العربية رأوا الأمر من زاوية مختلفة. من ناحية، عدّوا تهديدات حزب الله وإيران بالردّ على إسرائيل "مسرحيةً" فحسب. أمّا الأكثر إثارة، أنّ هناك من لم يتردَّد في اتّهام طهران باستدراج هنيّة، ضمن اتفاقٍ مع إسرائيل، للتخلّص منه (!) وقطعاً، لن يعدم هذا الهذيان مصفّقين ومُؤيّدين بين من يفترض أنّهم دَهْماء، إذ يدرك الشعبويون أنّ الدَهْماء، الباحثين عن تفسيرات للدرك الأسفل، الذي يقبع فيه الحال العربي، هم قوَّتهم ووقودهم.
ثمَّة فارق بين أن يقال إنّ إيران وحزب الله ليسا بالقوّة التي يحاولان تصوير نفسيهما فيها وأنّهما متواطئان ومتآمران مع إسرائيل، أو أنّهما عاجزان تماماً أمامها. لا هما متواطئان ولا متآمران معها، ولا هما عاجزان تماماً أمامها. لكنّ الحقائق لا تكذب، إسرائيل أقوى منهما، ليس بإمكاناتها الذاتية، فحسب، وإنّما بفضل الدعم الأميركي المطلق لها، أولاً وقبل كلّ شيء، ثمّ دعم دول غربية أخرى. هذا لا ينفي وجودَ عواملَ أخرى هنا. من ذلك تورّط إيران، تحديداً، وحزب الله استتباعاً، أداةً إيرانية في المنطقة، في جبهات استنزاف أخرى افتعلاها في الإقليم أو أنّهما تورّطا فيها، سواء بناء على حسابات طائفية أم استراتيجية، كما في العراق وسورية واليمن. أيضاً، لا يمكن أن نغفل كثيراً من المواقف الرسمية العربية، التي لم تعد تحرص على إخفاء حقيقة تواطؤها وتعاونها مع إسرائيل والولايات المتّحدة ضدّ مكوّنات من الهُويّة الجمعيَّة (الذات) في المنطقة. لكن، البعض بيننا يختار التعامي والقفز عن الوقائع والحقائق، أو تطويعها، وكأنّ أصناف الناس كلّهم دَهْماء، تبحث عن تبرئة النفس من المسؤولية الذاتية.
إيران وحزب الله يبحثان عن ردٍّ يوازن ما بين معادلات الردع وحسابات عدم الانجرار إلى حربٍ إقليمية مُدمِّرة، لن تكون إسرائيل عدوهم الأساسي فيها، وإنّما الولايات المتّحدة، ومن ورائها تحالف غربي – عربي. نعم، ثمَّة محور عربي لا يتردَّد ولا يخجل في أن يعلن أنّه جزءٌ من التحالف مع إسرائيل ضدّ إيران وأدواتها في المنطقة، وحريٌّ بنا أن نداري أوجهنا عاراً، من مساهمة دول عربية في التصدّي للهجوم الإيراني الانتقامي ضدّ إسرائيل في إبريل/ نيسان الماضي. أم هل يا ترانا نسينا كيف أنّ دولاً عربية سمحت لطائرات التحالف الغربي، وحتّى الطائرات الإسرائيلية أن تستبيح سيادةَ أجوائها لإسقاط المُسيَّرات والصواريخ الإيرانية قبل أن تصل إلى إسرائيل؟... بعضنا اختار حينها أن يُعَيِّر إيران بمحدودية الردّ والتمهيد العلني له، وهذا صحيح، إذ إنّها أرادات تجنّب استفزاز حرب أميركية ضدّها، ولكنهم تغاضوا عن الفضيحة العربية.
فارق بين أن يقال إنّ إيران وحزب الله ليسا بالقوّة التي يحاولان تصوير نفسيهما فيها وأنّهما متواطئان ومتآمران مع إسرائيل
باختصار، يمكن أن نبغض إيران وحزب الله بسبب جرائمهما ضدّنا عرباً، كما يحقّ لنا أن نسائل حجم ومدى ردّيهما، لكنّ هذا لا يعني أنهما مُنخرطان في "مسرحيةٍ" و"تمثيليةٍ"، بل هما يوازنان بين المكاسب والخسائر. إيران وحزب الله يُفكِّران بمصالحهما أولاً، فبماذا نُفكِّر نحن العرب؟ أيضاً، يمكن أن نكره طرفَين ونخاصمهما، ويكونا في الوقت ذاته كارهين لبعضهما بعضاً، ومتخاصمَين كذلك. التحليل السياسي لا يخضع لحُبّ وكراهية، ولا إلى تحيزات ورغبات. الأكثر أهمّية أنّ غضبنا من إيران وحزب الله لا ينفي أنّ تناقضنا المركزي يبقى مع إسرائيل، وأنّ الدماء التي تسيل بغزارة اليوم هي فلسطينيةٌ بأيديها. السؤال الأكثر أهمّية من ذلك كلّه، أين نحن العرب من سحقنا على أيدي أطرافَ عدّة؟ أيشرّف بعضاً أن يقول نكون مع إسرائيل ضدّ إيران وحزب الله؟... ذلك ليس شرفاً، بل هو قاعُ الانحطاط، كما أنّ تبرير الدماء التي تسيل في سورية بأيدي إيران وأدواتها هو قاعٌ آخر للانحطاط.