اتجاهات خرائط مجيد خدّوري للمسارات الإصلاحية
لم يكن المفكّر ألبرت حوراني (1915 – 1993) وحده من يهتم بخرائط الأفكار فيما يتعلق بعمليات النهوض والإصلاح، وإنْ شكل كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة" فرصة لدى آخرين ليحاكوا طريقته نفسها في التعامل مع الساحتين، السياسة والفكرية، وتلك المصطلحات التي اصطلح على أنها تهتم بعمليات الإصلاح في العالم العربي. ومن أهم الكتابات المهمة التي أسهمت إسهاما وافرا في تقديم خريطة لعالم الأفكار والمثل العليا في المجال السياسي "الاتجاهات السياسية في العالم العربي: دور الأفكار والمثل العليا في السياسة" للمفكّر العراقي مجيد خدّوري (1909 – 2007). وإذا كان حوراني لبنانيا توطن آنذاك في بريطانيا وقدّم اجتهاده هناك، فإن خدّوري عراقي قدّم اجتهاده في جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة، ذلك أن اهتمام تلك المدرسة الغربية ذات الأصول العربية والتي هجرت أوطانها إلى جامعات ومراكز بحوث في الغرب، سواء في بريطانيا العجوز التي قادت الحضارة الغربية هي وفرنسا في تنافس محموم، ثم ورثت الولايات المتحدة تلك الحضارة، ليقدّم هؤلاء الذين هاجروا إليها رؤى مهمة لخريطة الاتجاهات السياسية في العالم العربي، وقد صدر كتاب خدّوري في العام 1970، وترجم إلى العربية في طبعة أولى في الدار المتحدة للنشر في بيروت في 1972، إذ شكلت بيروت احتضانا لتلك الترجمات التي اهتمت بهذا الشأن من مشاريع فكرية وسياسية، ومن كتاباتٍ حاولت رسم هذه الخرائط الفكرية والمعرفية.
بيّن خدّوري أن القومية والديمقراطية لم يتم تجهيزهما بالقوة المطلوبة لإحراز التقدّم الضروري
ولعل تلك البداية التي استنّها ألبرت حوراني، حينما تعرض في مقدمة كتابه في سطوره الأولى إلى طبيعة الإشكال محل اهتمامه، معقبا على ذلك "المجهود العربي الفكري السياسي، والذي انصبّ على توفيق نظرية الإسلام في الحكم على مفهومها الإسلامي الأصلي وبين التغيرات التي طرأت على عملية الحكم، في مختلف أطوار تأسيس الأمة الإسلامية، نتيجة لظروف وأحوال وأوضاع جديدة مما أسفر مع الزمن عن توضيح أو تفسير أو تأويل أو تطوير أو تعديل أو تبديل لتلك النظرية ضمن إطار التقاليد الإسلامية أو خارجها، هذه المحاولة التي أدت في جوهرها إلى تطور ما في نظرية الحكم طوال قرون عديدة"، في الإطار ذاته، سار خدّوري على الطريقة نفسها، فذكر الإسلام منطلقا للإشكالية ذاتها التي عبر عنها في السياق ذاته، ليؤكد على عامل الزمن الذي أثر في ذلك كله، فأدّى إلى طرحه الإشكال ذاته، معبرا عن ذلك في عبارة مُقاربة "ينطوي الإسلام منذ نشأته على طريقة كاملة في الحياة ذات قواعد وقيم تمسّك بها العرب لفترة طويلة، أما اليوم فالمجتمع الإسلامي يعيش في ظل ظروف متغيرة، حالة من الانحلال لا يستطيع بعدها تلبية الحاجات والتوقعات المتزايدة، هل يجب تطوير الطريقة الإسلامية في الحياة، أم يجب استبدالها بطريقة أخرى"؛ هكذا اتحد كل من حوراني وخدّوري في طرح أصل القضية، على أنها تتعلق بعالم الزمن الذي طرق أبواب دول عالم الإسلام والمسلمين.
لم يكن ذلك أيضا المدخل الوحيد الذي اتفقا عليه منذ مقدمتي كتابيهما، ولكنهما اتفقا كذلك على أن سبب هذا الإشكال وحدّته، وقوة طرحه، إنما نشأت من ذلك الاحتكاك مع الحضارة الغربية حينما طرقت أبواب هذه الدول، إما في شكل غزو عسكري أو في أشكال تتعلق باحتكاك ثقافي وفكري. يؤكّد خدوري أن النقاش في هذا الإشكال، وعن هذه القضية، بدأ بعد احتلال نابليون مصر بعد الحملة الفرنسية في العام 1798، وهو ما ذهب إليه سابقا حوراني، باعتبار هذا الحدث (الحملة الفرنسية ..) هو المحور، مؤكّدا "جابه الإسلام فجأة في أوائل القرن التاسع عشر عالم أوروبا الحديث، فشعر المسلمون شعورا حادّا بضرورة القيام بمحاولة جديدة بين آخر ما قد وصلت إليه النظرية الإسلامية في الحكم وهذا الحدث الجديد الكبير، أملا برد تحدّيه المحرج الخطير، وهكذا نشأت حركة فكرية واسعة ونشطة يؤكد أن كتابه لم يكن إلا محاولة لبسط معالمها وتياراتها واتجاهاتها وتفرّعاتها وأسبابها ونتائجها". إنه يشير إلى معنى الخريطة الفكرية التي رصدها في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة" الذي سبقت الإشارة إليه، وهذا الأمر نفسه الذي أشار إليه خدّوري، حينما أكد أن إدراجه الخرائط الفكرية في كتابه لا يعني دراسة آراء جميع المفكرين العرب السياسيين، وإنما اعتنى بإبراز "مجاري الفكر السياسي الرئيسية في المشرق العربي". أما مجاري هذا الفكر في شمال أفريقيا فلم يتطرّق إليها، حسب ما ذكر، إلا مداورة حيثما تكون مفاهيمه ذات صلة بالحركات السياسية فيها"، راصدا الملاحظة التي أبداها المفكّر ولفريد سكاون بلنت، بقوله "لا إصلاح للإسلام إلا بإصلاح نظامه". وكان بلنت "واثقا من أن النظام الجديد سيكون نظاما أفضل، لكنه لم يحدّد لنا الشكل الذي يجب أن يتخذه، وقد تنوعت مقترحات الإصلاح بتنوّع المفكرين، إلا أنهم اتفقوا جميعا على ضرورته".
تناول مجيد خدّوري في كتابه موضوعات متعدّدة ومتنوعة، صنع من خلالها تصوراً مكتملاً للاتجاهات السياسية في العالم العربي
وهكذا تناول مجيد خدّوري في كتابه موضوعات متعدّدة ومتنوعة، صنع من خلالها تصورا مكتملا للاتجاهات السياسية في العالم العربي، بدءا من نشوء القومية ومرورا بالدستورية والديمقراطية على حساب تواري الولاءات والمؤسسات التقليدية، مبّينا أن القومية والديمقراطية لم يتم تجهيزهما بالقوة المطلوبة لإحراز التقدّم الضروري في ظروف الحياة الجديدة، كما أن ذلك لم يكن على المستوى الفكري فقط، ولكن تجارب العرب القليلة بين الحربين العالميتين أثبتت عجزهما، الأمر الذي دفع إلى تشكّل جماعة من المصلحين المحافظين، تدعو إلى إحياء المؤسسات الإسلامية. كما دعت مجموعة من الشباب إلى تبنّي أفكار وعقائد متطرّفة معاصرة، على أن أيا من هذه الفئات لم تستطع الوصول إلى السلطة، وبالتالي لم توضع أفكارها موضع التنفيذ. وعلى خلفية هذه الإخفاقات، نشطت أهمية الدعوة إلى الإصلاح في المجال الاجتماعي. وبشكل عام، يؤكّد خدّوري أنه لم ينبثق أي نظام سياسي يحظى بالاحترام العام، ولا تزال خريطة الإصلاح تتجاذبها التيارات والمفكّرون والمذاهب السياسية، وتحاول المدارس السياسية والتوجهات الفكرية أن تؤكّد على أن طرحها السياسي هو الأمثل والأصلح، مركزا اهتمامه على أن المجال السياسي هو الساحة الأساسية التي تتفاعل فيها الأفكار، وتتدافع فيها المشروعات الفكرية في محاولة لتقديم رؤية للإصلاح، من خلال رصد تلك الاتجاهات المختلفة.
ليس من هدف هذه المقالات أن تستعرض مثل هذه الكتابات، ولكن أن توضح كيف قدمت هذه الكتابات خدمة فكرية وثقافية عظيمة لمن يريد أن يتوفّر على دراسة مشاريع الإصلاح المختلفة، من خلال أن تكون مثل تلك الكتابات، والتي صدّرناها بألبرت حوراني ومجيد خدّوري، أن تكون ساحة لرصد الأشكال والخرائط الثقافية والمعرفية التي ارتبطت بتلك التوجهات السياسية والفكرية، كما أن التعلم من تلك الخرائط وقراءتها بالعمق الواجب هو أول الطريق لدراسة تلك المشاريع الإصلاحية، ووضعها في مقامها الصحيح، إذ صارت اتجاهات الفكر العربي المعاصر، في الأساس، نتاج العقائد والمثل العليا المتنافسة التي تولدها الأزمات المتعاقبة تحت تأثير الأفكار من جانب والضغوط الخارجية والحضارية من جانب آخر.