احتجاج مطلوب على صمت كريم خان عن جرائم إسرائيل
تتوالى الإدانات الدولية، مستنكرة اغتيال شهيدة الصحافة الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، والهجوم الهمجي الذي تعرّض له حملة نعشها وحُماته، من مجلس الأمن إلى الاتحاد الأوروبي وغيرهما. كما ندّدت أهم المنظمات الدولية بوحشية الجهاز القمعي الإسرائيلي، وارتفعت أصوات تطالب برفع هذه الجريمة إلى عناية المحكمة الجنائية الدولية. وبينما كان يُتوقع أن يعلُو صوت المدّعي العام في هذه المحكمة، كريم خان، على كل هذه الأصوات، آثر المحامي البريطاني صمته المطلق عن هذه الجريمة، وباقي جرائم نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
مضى زهاء أسبوع، ولم يُصدر مكتب خان بيانا، أو حتى سطرًا، يؤكّد على الأقل على أن قتل مراسلة قناة الجزيرة يعتبر جريمة حربٍ دولية، تدخل في نطاق ولاية المحكمة القضائية. ولم ينطق الناطق الرسمي باسم المحكمة ذاتها، فادي عبد الله، بكلمة، هو الآخر. ومنذ تولي خان منصبه يوم 16 يونيو/ حزيران 2021 إلى حدود 16 مايو/ أيار 2022، أصدر مكتبه 117 بيانا صحافيا، يخصّ سبعة منها التحقيق في جرائم الروس في أوكرانيا، ولم يأت على ذكر التحقيق في فلسطين ولو مرّة واحدة.
ويقابل تغاضي خان عن جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين حشده جبهة غربية لمعاقبة روسيا على اجتياحها أوكرانيا، فما إن مضت أربعة أيام على الغزو الروسي حتى استنفر خان "المجتمع الدولي"، وأعلن عن عزمه الشروع في التحقيق. وللالتفاف حول مشكلة الوقت الذي قد تستغرقه عملية الحصول على إذنٍ للتحقيق من قضاة المحكمة، وطَلَبَ من الدول الأطراف أن تحيل ملفّ أوكرانيا إلى مكتبه، فوصلت إليه 43 إحالة بدل الواحدة، ففتح التحقيق في وقت قياسي. وفي نقاش بشأن أوكرانيا، دار في معهد الولايات المتحدة للسلام في الـ26 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) في واشنطن، شدّد خان على ضرورة "تأسيس جبهة قانونية جديدة وموحًّدة"، وأشاد بعمل مكتبه مع سلطات قضائية في تسع دول تحقّق جميعها في جرائم روسيا في أوكرانيا، وتستثني جرائم كتائب أزوف النازية. احتفى خان بتوقيع مكتبه مذكرة تفاهم مع أوكرانيا وبولندا وليتوانيا للعمل معًا في إطار "فريق تحقيق مشترك"، بالشراكة مع وكالتين تابعتين للاتحاد الأوروبي: Eurojust وEuropole. وسيرسل مكتبه الأسبوع المقبل 42 محققًا إلى أوكرانيا، في "أكبر انتشار" لمحققي الادّعاء في تاريخ المحكمة على الإطلاق.
عدالة كريم خان مسيّسة للغاية، وجهود المحكمة الجنائية اليوم تولي الأولوية القصوى لدُول الجبهة الشرقية
وفي سياق العقاب الغربي لروسيا وحلفائها، التَفَتَ خان أيضا إلى التحقيق في جرائم دولية ارتُكبت خلال حرب 2008 بين روسيا وجورجيا حول أوسيتيا الجنوبية. وتقدّم، في 10 مارس/ آذار الماضي، بطلب إلى قضاة المحكمة لإصدار مذكرات توقيفٍ في حق ثلاثة أشخاص موالين لروسيا، ومتهمين بارتكاب جرائم حرب في جورجيا. وكان قبلها قد سارع إلى تقديم "طلب استعجالي" لقضاة الغرفة التمهيدية في 27 سبتمبر/ أيلول 2021، لاستئناف تحقيقٍ يفترض أن ينظر في الفظاعات التي ارتُكبت في أفغانستان جرّاء الغزو الأميركي، إلا أن خان قرّر التركيز على الجرائم المنسوبة لحركة طالبان وتنظيم داعش – ولاية خراسان في سياق الانسحاب الأميركي، ولم يجد حرجا في البوح بأنه "لن يمنح الجوانب الأخرى أولوية"، مستثنيا بذلك التحقيق في جرائم الغزاة الأميركيين في أفغانستان والقوات الأفغانية الموالية لهم.
عدالة كريم خان مسيّسة للغاية، وجهود المحكمة الجنائية اليوم تولي الأولوية القصوى لدُول الجبهة الشرقية، حيث تخوض واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون حربا بالوكالة ضد روسيا. لم يدّخر خان جهدا في قيادة هذه الجبهة، إذ أوجد حلولا لتسريع عجلة العدالة، وأصدر بياناتٍ شديدة اللهجة، وحصل على تعهداتٍ بتبرّعات من 20 دولة غربية، وقام بسفريات لخدمة قضايا جنائية تستثني أميركا من التحقيق وتلاحق أعداءها. ويقابل كل هذه الحيوية تجاهله جرائم الأبارتهايد الإسرائيلي. لقد مضى أزيد من 13 عاما على وضع ملف فلسطين بين أيدي المحكمة الجنائية الدولية، من دون أن تشرع الأخيرة فعليا في التحقيق. ويبدو ذلك واضحا في أحدث تقرير عن أنشطة المحكمة للفترة 2020/ 2021، الذي يعترف بأن مكتب المدعي العام ما زال "يٌقَيّم أفضل السبل لمواجهة التحدّيات في هذه الحالة مع مراعاة الحالة التشغيلية والقدرة على توفير الموارد، ويقوم على استكشاف سبل تأمين التعاون".
وفي لقاء أجراه مع قناة الجزيرة يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قال كريم خان باستخفاف إن "مسألة فلسطين" هي كباقي المسائل التي تنظر فيها المحكمة، لا تختلف عن أوغندا وساحل العاج أو مالي، مقلّلا بشكل ضمني من جسامة جرائم نظام الأبارتهايد الإسرائيلي. وأضاف، بشأن سير التحقيق المتعلق بفلسطين، أن مكتبه سينظر في الاختصاص وجسامة الجرائم والأدلة، للتأكد من أن بإمكانه أن يمارس عمله على نحو ناجع. ولم يُدرك مُحَاوره خطورة هذا التصريح الذي يعني أن خان يماطل ويعيد اختراع العجلة بإعادته النظر في مسألتي الاختصاص وجسامة الجرائم اللتين حسمتهما المحكمة قبل موافقتها على فتح التحقيق.
أتاح الفلسطينيون للمحكمة جبلا من أدلة الإثبات الدّامغة في جرائم إسرائيل
تمديد فترة الاستكشاف والتقييم والفحص إلى ما لا نهاية ليس مجرّد تقصير، وإنما هو جزء من سياسة المماطلة التي تتبعها المحكمة منذ أول مدّع عام، الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو. بعد ثلاث سنوات من الفحص الأولي، رَفَضَ أوكامبو فتح التحقيق في جرائم إسرائيل، لعدم تأكده إن كانت فلسطين تعدّ دولة بموجب القانون الدولي. لم يكلّف نفسه عناء صياغة تقريرٍ محترم، واكتفى ببيانٍ لا يزيد عن صفحتين أصدره على عجل، شهرين قبيل انتهاء فترة عمله. ثم تسلّمت بنسودا الملف لتماطل بدورها، وبعد خمس سنوات، خلصت الدراسة التمهيدية الثانية، في نهاية 2019، إلى أن جميع الشروط لفتح تحقيق مستوفية، ولإضاعة مزيد من الوقت، طلبت بنسودا حكمًا قضائيا استغرق أزيد من عام، ليؤكّد أن اختصاص المحكمة يشمل الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ 1967، لكنه أوضح أن قراره هذا قابِل للمراجعة إذا ما جرت إثارته مجدّدا.
وقبل نهاية فترة عملها بثلاثة أشهر، أعلنت بنسودا عن فتح التحقيق، وسجلت بذلك هدفا في الوقت الضائع، وألقت الكرة في مرمى خَلَفها. وها هو كريم خان يواصل سياسة المراوغة، ويشبعنا مماطلة، بدعوى نقص في قدرات التحقيق، وإعادة النظر في الاختصاص وجسامة الجرائم، وصعوبة التحقيق على الأرض نظرا إلى عدم تعاون إسرائيل. اللافت أن رفض روسيا التعاون مع مكتبه وعدم عضويتها في المحكمة وما يترتب عن ذلك من ضعف فرص مثول الروس أمام المحكمة، كل هذه العراقيل لم تُضعف عزمه وإصراره على "تحقيق العدالة" في أوكرانيا.
لقد أتاح الفلسطينيون للمحكمة جبلا من أدلة الإثبات الدّامغة في جرائم إسرائيل، ولو لم تكن هناك إرادة أورو - أميركية مُعلنة تحظر مساءلة هذه الدولة المارقة، لوجد خان حلولا لتجاوز مبدأ التكاملية وصعوبة التحقيق على الأرض، ولقرَّرَ التركيز على التحقيق في جرائم الاستيطان والأبارتهايد التي لا يجرّمهما القانون الإسرائيلي، ويمكن التحقيق فيها عن بعد، على أساس الوثائق والأدلة المتاحة لمكتبه. ولكن ما يتضح يوما بعد يوم أن البريطاني خان يأتمر بأوامر الحلف الأورو - أميركي الداعم نظام الأبارتهايد الصهيوني، سليل الاستعمار الغربي.
ليست المحكمة هيئة قضائية مستقلة، ولم تكن كذلك في أي يوم، بل هي مسجّلة منظمة حكومية دولية مختصة في العدالة الدولية
لقد أصبح ينطبق على هذا الوضع الفكرة أن "تأخير العدالة هو إنكارُ لها"، فحتى إن لم يكن هناك إحجام مقصود عن النظر في جرائم إسرائيل، فإن المحكمة الجنائية، بتقاعسها، تشجّع الكيان الصهيوني على التمادي في عدوانه، وتجب مساءلتها. في تقرير بتاريخ 21 مارس/ آذار 2022، خلص الكندي مايكل لينك، مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعنيّ بوضع حقوق الإنسان في فلسطين المحتلة، إلى أن الاحتلال الإسرائيلي تحوّل إلى نظام أبارتهايد، نتيجة غياب المساءلة الدولية، وتقاعس مجلس الأمن في تطبيق قراراته المُلزمة وقرارات الجمعية العامة القاضية بانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها منذ 1967.
في محاضراته ومناظراته، يردّد خان أن المساءلة تحول دون تكرار ارتكاب الجرائم الدولية، وأن المحكمة الجنائية الدولية قامت بالأساس لمنع الإفلات من العقاب. وحتى لا تظل هذه التصريحات مجرّد شعارات زائفة، تنبغي محاسبته على كل تصريحاته والاحتجاج على صمته إزاء جرائم إسرائيل، وعدم منحه التحقيق الأولوية ذاتها التي يخصّ بها جرائم الروس في أوكرانيا. وبإمكان السلطة الفلسطينية المطالبة بدورة استثنائية لجمعية الدول الأطراف في نظام روما، المؤسّس للمحكمة الجنائية الدولية. ينبغي وضع المحكمة أمام مسؤوليتها تجاه استفحال نظام الفصل العنصري في فلسطين جرّاء مماطلتها أزيد من 13 عاما. بموجب المادة 112 (5) من نظام روما، يمكن عقد هذه الدورة الاستثنائية بناءً على طلب من مكتب جمعية الدول الأطراف للمحكمة الجنائية الدولية، وفلسطين أحد أعضائه حاليا، أو بدعوةٍ من ثلث الدول الأطراف فقط. ويمكن الاستناد إلى عدد ملحوظ من الدول الأوروبية والأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية التي تدعم بصدق القضية الفلسطينية داخل المحكمة.
لا بد من نقل الاحتجاج على العدالة الدولية المسيّسة إلى داخل المحكمة التي تميّز بين ضحايا الاحتلال في أوكرانيا الحديثة العهد بجرائم الحرب، والضحايا الفلسطينيين الذين يواجهون للعام الـ 74 جرائم الاحتلال الاستيطاني. فعلى عكس ما يزعمه بعضهم، ليست المحكمة هيئة قضائية مستقلة، ولم تكن كذلك في أي يوم، بل هي مسجّلة منظمة حكومية دولية مختصة في العدالة الدولية، وتديرها جمعية الدول الأطراف التي تتكون من 123 دولة وقّعت نظام روما الأساسي أو صدّقت عليه. وكباقي المنظمات الحكومية الدولية، تخضع لعلاقات القوة بين الدّول، وتهيمن عليها الدول الغربية عبر جمعية الدول الأطراف التي تموّل أنشطتها، وتراقب عملها وتقيّمه، وتعيّن مُدّعيها وقضاتها وكبار موظفيها، وتوجّه في الكواليس أجندتها القضائية، على نحو يستثني واشنطن ومن يدور في فلكها. ويحتّم هذا الواقع على الفلسطينيين التعامل معها على أساس سياسي وقانوني في الوقت ذاته.
كان كريم خان من أشد منتقدي انتقائية المحكمة الجنائية قبل أن يلتحق بها، وها هو اليوم يمارس أشد وجوه العدالة الانتقائية الاستثنائية وضوحا
يجب الكفّ عن "حثّ" المحكمة على الإسراع في التحقيق. لقد انقضى وقت المجاملة، ووجب الانخراط في معركة سياسية شرسة داخل المحكمة لانتزاع حقّ فلسطين في العدالة الدولية. ويمكن الاحتذاء بالمعركة الدولية التي خاضتها بنجاح المجموعة الأفريقية داخل جمعية الدول الأطراف وخارجها بمساعدة الاتحاد الأفريقي، إذ لم تتردّد في اتهام المحكمة بممارسة عدالة انتقائية ومطاردة عنصرية كولونيالية، وهدّدت بانسحابٍ جماعيٍّ كارثي، حتى أجبرتها على توسيع تحقيقاتها لتشمل دولا خارج القارّة السمراء، ومرّرت قراراتٍ في صالح القادة الأفارقة.
كان كريم خان من أشد منتقدي انتقائية المحكمة الجنائية قبل أن يلتحق بها، وها هو اليوم يمارس أشد وجوه العدالة الانتقائية الاستثنائية وضوحا. يساهم المدعي العام البريطاني في تقويض حق الفلسطينيين في الوصول إلى العدالة الدولية، بمماطلته في التحقيق، وصمته عن التطهير العرقي في القدس الشرقية، وزحف الاستيطان الإسرائيلي واضطهاد الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر. وينبغي الاحتجاج على تمييزه الصارخ بين البيض والعرب، بين ضحايا جرائم الحرب في أوكرانيا وضحايا جرائم ضد الإنسانية في فلسطين المحتلة.
تبدأ مساءلة إسرائيل بمساءلة المدّعي العام والمحكمة ومن يقف وراءهما، فإن تمادى كريم خان في سياساته التمييزية الخاضعة لأجندات الجبهة الغربية الداعمة للصهيونية، يصبح لزاما على محامي الضحايا الفلسطينيين المطالبة بتنحّيه عن منصبه. لا تستجيب المنظمات الدولية لمن يسايرها ويجاملها، بل لمن يقف في وجهها، ويفضح ممارساتها، ويؤلّب عليها الرأي العام الدولي باسم القانون والقيم التي تتغنّى بها.