احتيالات صغيرة
يعرّف علم النفس الإحساس بالضجر بأنه حالة نفسية ناتجة عن أي نشاط ينقصه الدافع. وفي تعريفٍ أكثر دقة، هو استمرار مفروض على الإنسان في موقفٍ غير محبّبٍ للنفس، يطغى عليه ضعف الانتباه، والنفور من الاستمرار في الموقف ذاته، وهو تجربة انفعالية مربكة وغير سارّة، يشعر فيها الفرد بفقدان الاهتمام بالنشاط القائم وصعوبة التركيز فيه. وبحسب المحلل النفسي، آدم فيليبس، إنه تلك الحالة المعلقة التي تخلق فيها الفرص، ولكنها لا تتطوّر. وفي تعريف لغوي في معجم المعاني الجامع، وفي معجم لسان العرب، هو الضيق والتبرّم والقلق وضيق نفس. تتفاوت تداعياتها، بطبيعة الحال، بين شخص وآخر، بسبب فروق اجتماعية ونفسية عديدة، فقد ينتاب الضجر رجلا فاحش الثراء، بسبب نمط حياته المترف الباذخ، فتفقد الأشياء معناها، وتغدو مجرّد تحصيل حاصل، وواقعا لا يبعث على البهجة والرضا. والتاريخ حافلٌ بأسماء أثرياء أقدموا على الانتحار ضجرا من الحياة ليس أكثر، ولا ينجو الفقير المعدم من الإحساس المرير ذاته، فيُصاب به من فرط اللهاث خلف اللقمة المغمّسة بالتعب والخيبة.
وأيا كان مبعث هذا الشعور القاتل، فإنه يؤدّي، في جميع الحالات، إلى توقف الرغبة في الحياة. ومما لا يحتمل الجدل أن تفشّي وباء كورونا الذي قلب الحياة رأسا على عقب زاد الأمر تعقيدا، فأصبح الكون برمته يعاني من مشاعر ضجر جمعية غير مسبوقة ربما، على الرغم من توفر وسائل التسلية البيتية المختلفة المعدّة لكل الأمزجة من أفلام ومسلسلات وبرامج ترفيهية وألعاب إلكترونية وبرامج وثائقية وإمكانات تواصل متقدّمة، والتي قد تبدو كافيةً للفرد، كي يعلن استغناءً كليا عن الآخر، غير أنها وصلت به إلى مرحلة توحد وعزلة خطيرة من نوعها.
ويمكن اعتبار هذا الإحساس المضني بالضجر قرينا للتكرار والاعتياد الذي يودي بعلاقات إنسانية جوهرية، مثل علاقة الحب التي تبدأ مشتعلةً متوهجةً متألقةً معزّزة بالفضول والرغبة في اكتشاف الآخر والاقتراب من عالمه. ولكن سرعان ما يغرس هذا الوحش غير الرحيم أنيابه الحادّة في هذه المشاعر هشّة التكوين، محدودة التأثير، وإن بدأت متدفقة متّقدة مدهشة، قادرة على إشعال الروح فرحا وإقبالا واندفاعا باتجاه الحياة، قبل أن يلقي بها إلى حضيض المعتاد والمتوقع والرتيب. وفي حين يحمّل الطرفان بعضهما مسؤولية فشل العلاقة، فإنهما يغفلان عن التشخيص الواقعي والحقيقي، فيبحث كل منهما عن علاقةٍ أخرى، توفر لكل منهما من جديد إمكانية الدهشة والتوق والانفعال الذي يضمن تدفق الأدرينالين في الأجساد الضجرة المتعبة. لنعترف إذا بأن الاعتياد عدوٌّ شرس، تصعب مجاراته في ظل إمكانات الإنسان المحدودة، فالرجل الوسيم المثير للفضول يغدو، بعد حين، مثيرا للملل بأحاديثه المكرّرة وأفكاره غير المتجدّدة. والرجل المفتون بجمال المرأة وذكائها سرعان ما يفقد، تحت وطأة الاعتياد، أسباب إعجابه بها لتصبح وبقية النساء سواء، فينطفئ القلب، ويتلاشى السحر، ويتبدّد الوهم ويختفي الألق، ويحل الواقع بكل ثقله.
ولا يقتصر الأمر على علاقة الحب، بل يمكن صرفه على شتى أنواع العلاقات الإنسانية التي تلاقي المصير نفسه بالضرورة. ولا يتبقى أمام الإنسان المعاصر، المبتلى بالروتين والتكرار، سوى محاولة التحايل على الوقت والمكان والواقع الشائك. احتيالات صغيرة ذكية، تمكّنه من مواجهة الحياة يوما بيوم، مثل إجراء تغييراتٍ في نمط حياته، تخلصا من الرتابة القاتلة، وإحاطة نفسه بدائرةٍ من الأصدقاء الخلص ممن يوفرون له الإحساس بالأمان، ويحققون رغبته في تواصل إنساني لا يخلو من الدفء والمحبة والاكتراث، وكذلك محاولة الانخراط في اهتمامات متعدّدة وجديدة، تشغل وقته وتنسيه همومه ومخاوفه، ولو إلى حين، ذلك أن السعادة الحقيقية تكمن دائما في القدرة على صرف الذهن.