استحضار ميتران بعد ربع قرن
العودة إلى الرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران، في ذكرى مرور ربع قرن على رحيله في 8 يناير/ كانون الثاني 1996، ضرورية للتحسس، بالملموس، فداحة السياسة في أيامنا. ولأنه لا تجوز مقارنة ما لا يُقارَن، فإن القياس لا بدّ أن يحصل على فرنسا نفسها، التي يفترض أن تكون إحدى عواصم السياسة بتعريفها كمجموعة مشاريع وأفكار وتدبير للشأن العام ورؤى لهذا التدبير لا تستقيم أو ترى النور إلا من خلال أحزاب بالضرورة، ومؤهلات شخصية لا بدّ من توفرها من أجل تحصيل موافقة شعبية على إدارة سياسة تشمل، ببساطة، كل ما هو شأن عام. إذاً، في العودة إلى شخصية من طراز ميتران مقارنات لا بد من عقدها مع راهن فرنسي بائس، ورئيس أغلب الظن أنه اطلع طويلاً على كيف تكون السياسة حقاً، لكي يفعل كل ما هو عكسها. ويمكن توسيع الإسقاطات لتشمل واقعاً عالمياً تُنعى فيه السياسة كل يوم على حساب كل ما هو نقيض لها: موضة منظمات المجتمع المدني المعادية للأحزاب بتعريفها، والشعبويات القومية والعنصريات والهويات القاتلة، وأغلبها ما قبل دولتي، والانتماءات الدنيا، والتفسيرات المؤامراتية للظواهر والأحداث، والفاشيات الجديدة.
يصلح الانطلاق في فانتازيا المقارنات من الراهن الفرنسي قبل عام من انتخابات الرئاسة في 2022، بأحزاب منهارة، وأولها حزب ميتران نفسه، الحزب الاشتراكي الفرنسي، وحليفه التاريخي، الشيوعي الفرنسي. ميتران، السجين في شبابه لدى النازيين والمنخرط في صفوف المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية والمنتسب باكراً إلى حزب جان جوريس، تولّى وزارات 11 مرة قبل أن يصبح رئيساً، من دون احتساب المناصب التي انتخب لشغلها. عمل 40 عاماً في السياسة قبل أن يصل إلى لقب صاحب أطول ولاية رئاسية في الجمهورية الخامسة. رجل ترشح ضد شارل ديغول عام 1965 ثم ضد فاليري جيسكار ديستانغ وخسر مرتين قبل أن يفوز في 1981 ثم 1988. أما راهن فرنسا، فرئيسها شاب ثلاثيني خريج مصارف وعالم المال، فخور بخلوّ سجله من أي عمل حزبي وسياسي حقيقي. فاز بالرئاسة في زمن موت الأحزاب وفوبيا آل لوبان، فقال لنفسه فلنؤسس حزباً، على طريقة رجال الأعمال، يجمع أحدهم أول مليون دولار، فيؤسس شركة كفيلة بجعلها المليون ملياراً. هناك سياسة، وهنا أطلالها.
ميتران أنجز معظم برنامجه الانتخابي اليساري (حقاً) في أول عامين من رئاسته، تحديداً حتى عام 1984، أي في عزّ زمن العولمة التاتشرية والريغانية. ربما ما سرّع في تنفيذ وعوده سريعاً أن أطباءه أعطوه، فور انتخابه في 1981، أملاً بالحياة بسبب سرطان البروستات ما بين 6 أشهر وسنتين كحد أقصى، لكنه عاش 14 سنة رئيساً، يسارياً حتى 1984، وليبرالياً في الاقتصاد حتى 1996. في زمن يساريته، أشرك وزراء من الحزب الشيوعي الفرنسي في أولى حكوماته، وأمّم عدداً كبيراً من المؤسسات والمصارف، وسوّى الأوضاع القانونية لما بين 150 ألفاً و200 ألف من المقيمين بصورة غير شرعية في فرنسا وأقرّ قوانين العمل وقلّص عدد ساعات الشغل الأسبوعي، ورفع الحد الأدنى للأجور وألغى حكم الإعدام وشرّع الحريات الجنسية وألغى تجريم المثلية وزاد بدل السكن والمساعدات العائلية. وعام 1984، عندما قرر تغيير الوجهة نحو الوسط واليمين، أجرى انتخابات وبناءً عليها قال لناسه هذا ما لدي: اقتصاد سوق ليبرالي استحال معه اسم الحزب الاشتراكي مزحة سمجة. وبالفعل، انفصل عنه الشيوعيون وتغيّر المشهد، لكن بناءً على اقتراع شعبي حقيقي وتحالفات وضجيج فئات اجتماعية وتحوّلات مبنية على مصالح وأدبيات وصراعات أحزاب. ذاك كان ميتران وزمن السياسة. أما ماكرون هذا، فشيء آخر تماماً.
استحضار ميتران بعد 25 عاماً على وفاته، فرصة لتكريس راهنية وصيته ونبوءته الشهيرة قبل بضعة أشهر من رحيله. وقف العجوز المريض أمام البرلمان الأوروبي في سترازبورغ عام 1995. رفع رأسه بصعوبة. رمى نظرة إلى ما سيحصل بعد بضع سنوات في العالم وقال للحاضرين: النزعات القومية تعني الحرب.
ومنذ ذلك التاريخ، حروب القوميات تكتب أعماراً مديدة لحروب أشرس تخلفها.