استحقاقات المغرب وضرورة التخلية قبل التحلية

28 فبراير 2021
+ الخط -

في احترام تام للمواعيد الدستورية، وفي عز الأزمة الصحية، سيشهد المغرب خلال سنة 2021 انتخابات تشريعية وبلدية لتجديد مجلس النواب، أي الغرفة السفلى للبرلمان المغربي التي ستنبثق منها الحكومة المقبلة. كما ستجرى انتخابات محلية تفضي إلى تجديد المجالس البلدية، وتؤثر بعد ذلك في انتخابات مجلس المستشارين (الغرفة السفلى) ومجالس الجهات. وعليه، يمكن القول إن هذه الانتخابات ستحدّد المسار السياسي للمغرب عدة سنوات. لا ينكر ناكر أن المغرب يحتل رتبة متقدّمة في مؤشّر الديمقراطية العالمي من بين كل الدول العربية عدا تونس، بل إنه يتقدّم عليها في الاستقرار السياسي، ويشكّل نموذجا في احترام بعض المعايير الديمقراطية، سمحت له باحتلال هذا المنصب المتقدّم نسبيا بين دول العالم الثالث والدول العربية والإسلامية. لكن، وعلى الرغم من هذا، فإن دولا عديدة جنوبي الصحراء تتقدّم على المغرب في هذا التصنيف، منها السنغال، مالاوي، مدغشقر، ليبيريا، تنزانيا أو كينيا.

تكلف الاستحقاقات الانتخابية الدولة المغربية حوالي مليار ونصف مليار درهم مغربي (170 مليون دولار)، ولا يمكن تقليص نفقاتها بأي حال. وإذا كانت الدولة المغربية قد عقدت العزم على الاستمرارية في هذا المسار الديمقراطي الهجين، يبقى التساؤل: هل تقبل الدولة المغربية بالتكلفة الديمقراطية أيضا لتحقيق تطلعات الشعب المغربي في الوصول إلى ثقافة ديمقراطية شاملة، وفي ربط حقيقي للمسؤولية بالمحاسبة، وفي البلوغ إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي محاربة الريع والفساد، وغيرها من الملفات التي أضحت مجرّد شعاراتٍ لا يثق بها أغلب المغاربة؟

اتخذ المغرب مسارا جديدا منذ وصول الملك محمد السادس إلى السلطة، وقفز قفزة نوعية سنة 2011 بدستور جديد وبممارسة سياسية تقدّمية، يمكن أن يكون أبرزها احترام نتائج الانتخابات والابتعاد عن منطق التزوير الذي كان سائدا، في اتجاه حياد سلبي يلقي اللوم على السياسيين، وعلى الأحزاب السياسية، ويتهمها بضعف تأطير المواطنين. ومن ثمّة يحملها المسؤولية المعنوية عن ضعف المشاركة السياسية وتبخيس العمل السياسي.

فهم المواطن المغربي مَن بيده حقيقة السلطة التنفيذية، وأدرك أنه مهما تغيرت الحكومات، فإن الدولة مستمرة في سياساتها

عندما تريد السلطة الحقيقية في المغرب بلوغ هدفٍ معين، فهي تعمل على تحقيقه بكل الوسائل الممكنة، وتضع كل إمكاناتها لذلك. وهذا ما لوحظ في حملة التلقيح ضد فيروس كورونا التي جعلت المغرب يتفوق على دول كثيرة متقدمة في نسبة الملقحين، ما يفيد بأنه عندما تلتقي الرغبة الصادقة والإرادة الحرة بالتنظيم المحكم والترتيب المضبوط، فإن النجاح يكون حليف كل مثابر.

 في المقابل، ألم تكن هناك تراجعات وانتكاساتٌ في المجال السياسي بصفة عامة، والديمقراطي والحقوقي بصفة خاصة؟ تراجع تجلّى في عودة أم الوزارات، أي وزارة الداخلية، إلى سابق عهدها من قوة ومن قبضة حديدية ومن مقاربة أمنية، أحرجت وتحرج كل السياسيين. انتكاس ظهر في محاكمات قضائية عديدة ذات صبغة سياسية، ما أدّى إلى سجن مناضلين وصحافيين، وارتداد في المسار السياسي، حيث إنه، وعلى الرغم من أن رئيس الحكومة ينتمي لحزب سياسي، فهو لا يملك تطبيق برنامجه ولا احترام وعوده، لأنه وبكل بساطة لا سيطرة له على كل الوزارات ذات الثقل الداخلي أو الخارجي، أي ما يعرف بالوزرات السيادية.

هي حكومة سياسية، في شقها الظاهر، يتحمّل مسؤوليتها أمام الشعب التحالف الحزبي الحاكم ظاهرا، لكنها في صلبها حكومة تكنوقراط من أبناء الدولة العميقة الذين رضيت عنهم الدولة ورضوا عنها، تتحكّم في المشهد السياسي بجر خيوط اللعبة، إما مباشرة بالتدخلات المباشرة حينا أو بالتوجيهات حينا أخرى، أو بطريقة غير مباشرة بإصدار التعليمات للأحزاب لاتخاذ مواقف معينة، فهي تكاد تشبه مسرحية أغلب ممثليها "كراكيز".

كيف يمكن للدولة المغربية أن تكسب ثقة المواطن في المشهد السياسي المغربي وهي تنقض عرى ديمقراطية ضعيفة وهجينة عروة عروة؟

فهم المواطن المغربي مَن بيده حقيقة السلطة التنفيذية، وأدرك أنه مهما تغيرت الحكومات، فإن الدولة مستمرة في سياساتها، فابتعد عن أمرٍ يرى ألا طائلة من ورائه. وعليه، اتضح للعيان أن العزوف الانتخابي داء لا دواء له سوى رجوع ثقة المواطن في المؤسسات، وحتى كلمة رجوع ثمة مجازفة في استعمالها، فالثقة لم توجد أصلا منذ نشأة الدولة الحديثة ومنذ الاستقلال. أما الرفع من مستوى المشاركة السياسية، فلن يتأتى إلا بمدى الرهانات التي يمكن تحقيقها عبر صناديق الاقتراع، وعبر إعطاء مضمون سياسي حقيقي للانتخابات، وعبر الامتداد المجتمعي للأحزاب السياسية، بما يسمح لها بالقدرة على التعبئة الفعلية وتجديد النخب.

كيف يمكن للدولة المغربية أن تكسب ثقة المواطن في المشهد السياسي المغربي، وهي تنقض عرى ديمقراطية ضعيفة وهجينة عروة عروة؟ قطار الانتقال الديمقراطي أصبح من دون قاطرة مع ذهاب كبار زعماء الأحزاب السياسية. ومن المعلوم أن سيرورة الانتقال الديمقراطي لا تتم بالتدافع بين الأقطاب السياسية وبين أجهزة الدولة، إذ إنه كلما خفَتَ صوت النضال خبا نبراس ضوء الديمقراطية، وكلما انخفض سقف المطالب تقلص هامش الحرية، وكلما ازدادت الرقابة الذاتية كلما تغولت الأجهزة وضعف هامش المناورة والتحرك.

ما زال المغاربة ينتظرون تنزيل مضامين الخطاب الملكي لسنة 2005 الذي وعدهم بالمشاركة السياسية والتمثيلية في البرلمان

على سبيل المثال، لا يسمح نمط الاقتراع لأي حزب بالحصول على الأغلبية، وهو السبب الحقيقي لعدم وجود حكوماتٍ قوية، والاضطرار إلى تحالفاتٍ هجينةٍ تجمع بين الإسلامي والشيوعي والليبرالي والاشتراكي. وعلى الرغم من هذا، نسمع أصواتا مدفوعة الأجر تطالب بحكومة وحدة وطنية، حيث لم تكفها ألوان قوس قزح في التشكيلة الحكومية. وعوض معالجة الداء بتغيير في القانون الانتخابي في الاتجاه الصحيح، نرى محاولة لمزيدٍ من التقسيم والتشتيت باعتماد القاسم الانتخابي على أساس عدد المسجلين، وليس عدد المصوّتين، فيتساوى الغث والسمين، وتتفرّق أصوات الناخبين بين "قبائل" الأحزاب السياسية، كي تتبخر الفائدة من التصويت، وهذا عين التبخيس الدافع إلى العزوف وتكريس المخاصمة بين المواطنين وصندوق الاقتراع، هو منطق "وداوني بالتي كانت هي الداء".

مثال آخر، ما زال مغاربة العالم ينتظرون تنزيل مضامين الخطاب الملكي لسنة 2005 الذي وعدهم بالمشاركة السياسية والتمثيلية في البرلمان. كل الأحزاب المغربية تساند هذه المشاركة قولا وفعلا، وعلى الرغم من أن هذه النقطة متضمنة في كل البرامج الانتخابية للتحالف الحكومي، لم تستطع الحكومة تطبيقها وتنزيلها، وليس سرا إن القرار بيد من بيده الأمر. هي، إذن، تخلية ضرورية قبل أية تحلية لتكريس الانتقال الديمقراطي في المغرب، تخلية بالمضمون قبل الشكل، فالشوائب بانت والعيوب ظهرت والتجربة أفادت والإصلاح في ظل الاستقرار لا مناص منه.

باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط
مهندس معلوماتيات، باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية، نائب عمدة سابقا في الضاحية الباريسية.
عمر المرابط