استراتيجية حقوق الإنسان في مصر والسير عكس الاتجاه
مرّت قبل أيام الذكرى الأولى لصدور "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" التي أطلقتها الدولة المصرية في احتفال كبير، وسط ظنّ كثيرين أن مرحلة جديدة وإيجابية من تعزيز حقوق الإنسان قد بدأت للتو، وهو ما لم يحدُث. وتغطي الاستراتيجية عدة محاور، أبرزها الحقوق المدنية والسياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وحقوق المرأة والطفل، وبناء القدرات في مجال حقوق الإنسان.
وبالرغم من مستوى الحماية المتدنّي والصياغات المراوغة التي تتضمنّها الوثيقة بالمقارنة مع النصوص الدستورية الحاكمة، والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وإلقاء الوثيقة اللوم على المواطنين المصريين، بزعم افتقاد الثقافة المؤهلة لممارسة هذه الحقوق، ومع ذلك كانت الحصيلة صفرية، وفي الاتجاه المضادّ إلى حد كبير. والمسؤولية الكبرى هنا في تطبيق الاستراتيجية تقع على أجهزة الدولة، وعلى السلطتين، التنفيذية والتشريعية، في تحقيق المستهدف منها، ولا تحتاج لموارد مالية، ولا لحوارات بيزنطية تستهلك الوقت والجهد لتفعيلها.
ومع ذلك، لم تشهد الوثيقة أي نياتٍ حقيقية لتنفيذ النتائج المستهدفة منها، رغم أن من اليسير إصدار قوانين تضمن ذلك، وتطبيق التوصيات التي سبق للحكومة المصرية أن وافقت عليها في مجلس حقوق الإنسان عام 2019. ولا تحتاج إلا لإرادة سياسية حقيقية في مجال حماية الحريات الشخصية، وبشكل خاص، وقف ظاهرة التعذيب في مقارّ الاحتجاز بتعديل قانون العقوبات، وإجراء تعديل قانوني في مواد الحبس الاحتياطي المطوّل، والتي أصبحت عقوبةً بلا حكم قضائي قد تصل إلى سنوات، وهو ما لا يحدُث حتى في بلدان كثيرة في العالم الثالث، من دون إحالة المحبوسين إلى القضاء، أو وقف ظاهرة تدوير السجناء في قضايا مختلفة بالاتهامات نفسها، في ظل وجودهم خلف أسوار السجون، فكيف لهم أن يمارسوا أفعالا جديدة وهم في السجن!
أعطى مجلس النواب الأولوية للتشريعات ذات الطابع الاقتصادي، والتي أدّت إلى فشل كامل في السياسات الاقتصادية المتبعة
وبرصد سريع للقوانين الصادرة خلال دور الانعقاد الثاني لمجلس النواب (أكتوبر/ تشرين الأول 2021 ـ يوليو/ تموز 2022)، وقد بلغت 184 قانونا. لن نجد أي تشريع يتعلق بحماية حقوق الإنسان باستثناء القانون رقم 14 لسنة 2022 في شأن تنظيم السجون، القاضي بتعديل شكلي بتغيير مسمّاها إلى مراكز التأهيل وقطاع الحماية المجتمعية بديلا قطاع السجون، والنزلاء بديلا عن المسجونين! إلى جانب وقف حالة الطوارئ الذي صاحبه نقل تدابير استثنائية إلى التشريعات العقابية الأخرى.
في المقابل، أعطى مجلس النواب الأولوية للتشريعات ذات الطابع الاقتصادي، والتي أدّت إلى فشل كامل في السياسات الاقتصادية المتبعة، ومنها قانونا المالية العامة الموحد والتخطيط العام للدولة. وكانت الأولوية لتشديد التشريعات العقابية وإعطاء صلاحيات إضافية للمؤسسة العسكرية بتعديل أحكام القانون رقم 136 لسنة 2014 في شأن تأمين المنشآت العامة والحيوية وحمايتها، والتوسّع في صلاحيات القضاء العسكري، وتعديل قانون العقوبات (بتشديد عقوبة إفشاء أسرار الدفاع عن الدولة)، وتعديل أحكام قانون مكافحة الإرهاب بحظر تصوير أو تسجيل أو بث أو عرض أية وقائع من جلسات المحاكمة في الجرائم الإرهابية إلا بإذن من رئيس المحكمة وإعطاء رئيس الجمهورية حق فرض تدابير استثنائية في مواجهة الإرهاب.
وعلى الأرض، تزايدت الانتهاكات الخاصة بالحق في الحرية الشخصية، من خلال آليات الحبس الاحتياطي المطوّل، والقبض على ناشطين جدد باتهامات نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية وإساءة استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لمجرّد إبدائهم آراءهم أو بث فيديوهات خاصة بأوضاعهم الإنسانية والاقتصادية.
استمرار القيود على نشطاء المنظمات الحقوقية المستقلة، ومنعهم من السفر والتحفظ على أموالهم
وجرى انتهاك حقوق السجناء، بالرغم من إنشاء عدد من السجون باسمها "مراكز تأهيل"، إلا أن ذلك لم يؤد إلى إحداث تغيير إيجابي في هذا المجال، بل بالعكس توفى عشرات السجناء بسبب سوء الحالة الصحية داخل أقسام الشرطة والسجون المختلفة، كما تم تجاهل شكاوى السجناء والمحبوسين احتياطيا فيما يتعلق بحقوقهم في الصحة والتريّض والاتصال بالعالم الخارجي، بالإضافة إلى شيوع جرائم التعذيب واستخدام القسوة، ما أدّى إلى وفياتٍ لم تحقق فيها النيابة العامة بشكل جادّ.
واستمرت ظاهرة حبس الصحافيين، وبلغ عددهم 26 صحافيا، وقُبض على إعلاميين وصحافيين جدد، منهم هالة فهمي وصفاء الكوربيجي، في مقابل إخلاءات سبيل لعدد محدود من الصحافيين. وتواصل حبس محامين ونشطاء حقوق الإنسان، بسبب عملهم المهني ونشاطهم الحقوقي، ومنهم محمد الباقر وعمرو نوهان وزياد العليمي ويوسف منصور وإبراهيم متولي وهدى عبد المنعم.
وجرى الإبقاء على سياسة حجب المواقع الإعلامية والصحافية المستقلة، والتي وصلت إلى 500 موقع، والسيطرة على أجهزة الإعلام المختلفة من الشركة المتحدة المقرّبة من الهيئات السيادية، إلى جانب استمرار القيود على نشطاء المنظمات الحقوقية المستقلة، ومنعهم من السفر والتحفظ على أموالهم.
وعلى صعيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تواصلت سياسات اللجوء إلى القروض، وتخلّي الدولة عن دعم السلع الأساسية وتعويم الجنيه ورفع سعر الدولار، وهو ما أدّى إلى خفض مستوى المعيشة لملايين الأسر المصرية، فضلا عن دخولهم في دائرة الحد الأدنى للفقر ووصول الدولة إلى حافّة الإفلاس. واستمرّت انتهاكات حقوق العمال واستشراء ممارسات الفصل التعسّفي، ودعم أجهزة الأمن أصحاب العمل، ما أدّى إلى انتحار عمّالٍ كثيرين. بالإضافة إلى الأجواء السلبية التي أحاطت بالانتخابات العمّالية، واستخدمت فيها الأجهزة الأمنية الضغوط المختلفة لمنعهم من الترشّح. وجرى انتهاك حق المواطنين في السكن، مع إصرار أجهزة الدولة على سياسة الإخلاء القسري لآلاف المواطنين المصريين، وخصوصا في محافظات القاهرة الكبرى وشمال سيناء لبناء كباري (جسور) ومحاور مرورية بغض النظر عن حقوقهم. وثمّة تردّي الخدمات الصحية في المستشفيات العامة والحكومية، وسط أنباء عن بيع مستشفيات حكومية لمستثمرين خليجيين.
شيوع جرائم التعذيب واستخدام القسوة في السجون، ما أدّى إلى وفيات، ولم تحقق فيها النيابة العامة بشكل جادّ
الأغرب من ذلك أنه على الرغم من وجود لجان مختصّة بحقوق الإنسان تابعة لعدّة وزارات وهيئات، ومجلسي النواب والشيوخ، ناهيك عن المجلس القومي لحقوق الإنسان، إلا أن الواقع لم يشهد أي محاولة جادّة لتفعيل الاستراتيجية، والتوصيات التي التزمت بها مصر أمام مجلس حقوق الإنسان أخيرا.
ما نطلبه هو إحداث تغيير نوعي وإيجابي في حالة حقوق الإنسان في مصر، بإجراءات حكومية بالسماح بمناخ صحي للحوار بين مختلف الآراء، والقيام بتعديلات تشريعية على المدى القصير، سواء فيما يتعلق بالحبس الاحتياطي وظاهرة التدوير، وإخلاء سبيل آلاف سجناء الرأي الذين كانت كل جريمتهم التعبير عن آرائهم في محيطهم، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، والتراجع عن أي حالات قبض جديدة، ووقف حجب المواقع الإعلامية. وعلى المدى الطويل، التأكيد على ضمانات المحاكمة العادلة وإصدار تشريعاتٍ تؤكّد على استقلال دور النيابة العامة والمؤسسات القضائية واحترام الحقوق السياسية والمدنية، وخصوصا الحق في التظاهر والتجمّع السلمي، والحق في التنظيم، وكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وبشكل خاص، الحق في العمل والصحة والتعليم والسكن.
وفي ظل استمرار المناخ المقيد هذه الحقوق، وهيمنة السلطة التنفيذية على باقي المؤسّسات الأخرى، سيكون إنشاء لجان ومبادرات جزئية على غرار لجنة العفو الرئاسي ومبادرة حرية وكرامة وحياة كريمة مجرّد مسكّنات مؤقتة، ولن تؤدّي إلى أية حلول حقيقية لأزمة حقوق الإنسان في مصر.