استطلاع المركز العربي... رفض متزايد للاعتراف بإسرائيل
حين يقول رجلٌ مُسنٌّ هدّه الإعياء، فيما يقف إلى جوار أنقاض بيته، إن الحرب على غزّة نكبة ثانية تعيد تذكيره بنكبة 1948 ولكن بصورةٍ أقسى، فإنه، وعلى المقياس ذاته، يعيد الموقف العربي الشعبي الحالي من دولة الاحتلال إنتاج الموقف الحازم من هذه الدولة، غداة إنشائها قبل أزيد من 75 عاماً. وهذا بعضٌ مما يُستشفّ من نتائج استطلاع جديد أجراه، أخيرا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على عيّنة من المستطلعين شملت 14 دولة عربية، وذلك خلافا لاستطلاعات سابقة، قبل سنوات، جنحت فيها تيارات شعبية في دول عربية بعينها لإبداء الاستعداد للاعتراف باسرائيل، ولم تعد حينها تلك الدولة الباغية على رأس مصادر التهديد للأمن الوطني والقومي، وقد تبين الآن أن تلك المواقف كانت طارئة وآنية، إذ لا سابق ولا لاحق لها من مواقف مماثلة.
كذلك وخلافاً لما كانت عليه الاستقطابات والاصطفافات في عقودٍ سابقة، فإن يقظة الأجيال الجديدة من الجمهور الغربي، وتسيير مسيرات حاشدة مناوئة للحرب وفظائعها شحنت الرأي العام العربي بموجةٍ متجدّدة من السّخط تجاه دولة الاحتلال، بينما كان الأمر شبه معكوسٍ في السابق، إذ كانت شرارة الحراكات تنبعث من العالم العربي أولا، ثم تبلغ أصقاعا بعيدة على ضفتي الأطلسي والمتوسّط. كما ساعد في تصليب المواقف الشعبية لدى عددٍ ضئيلٍ من الدول العربية ما أبدته دولٌ في أفريقيا وأميركا اللاتينية من مواقف مناهضة للحرب الوحشية، إضافة إلى مواقف رسمية أوروبية في بلجيكا وإسبانيا والنرويج ومالطا وأيرلندا. وبهذا، ظهرت مساحةٌ واسعةٌ للتفاعل والتأثر والتأثير، بفضل "السوشيال ميديا"، وقنوات العولمة، إذ إن موجة الاحتجاجات لم تقتصر على المسيرات والمظاهر الاحتفالية، بل تعدّتها إلى إعلان المقاطعة لمؤسّسات أميركية وغربية وقد ظهرت هذه الحركة في الغرب أولاً، ولم تلبث أن انتقلت، في غضون أيام، إلى العالم العربي، وحققت نجاحا ملحوظاً.
إسرائيل، بما هي عليه من كيان عنصري متوحّش، تستحقّ العزل وتوجيه الضغوط عليها، وليس التودّد إليها والتقرّب منها
وليس من المتوقّع أن تنعكس اتجاهات الرأي العام خلال فترة قريبة على صوغ السياسات الحالية في البلدان المشمولة بالاستطلاع، إلا أن هذه الاتجاهات لن تكون بلا تأثير، فلطالما تغنّى مسؤولون عرب بأن قراراتهم وتوجّهاتهم إنما تعكس "نبض الشارع" و"الضمير الشعبي" و"تلبي تطلعات الناس ورؤاها". و فيما تسمح دولٌ عربية قليلة للجمهور بممارسة الحقّ في التعبير بصورة علنية، فإن إحدى فوائد هذا الاستطلاع أنه قد فتح نافذة للتعبير عن الرأي عبر طرح الأسئلة أو لاستفسارات مع خيارات متعددة للإجابة، ومن دون تعريض المستطلعين لأية عواقب، كما هو الحال لدى ممارسة حقّهم في التعبير بصورة علنية. وفي المحصلة، ارتفعت نسبة رافضي الاعتراف بإسرائيل من 84% إلى 89%، بما يؤكّد أن التطبيع ليس خيار الناس أبداً، إذ يبدو في أنظار الجمهور مجافياً لطبيعة الأشياء ومنطق الأمور، فإسرائيل، بما هي عليه من كيان عنصري متوحّش، تستحقّ العزل وتوجيه الضغوط عليها، وليس التودّد إليها والتقرّب منها، وبخاصة أن حربها الحالية على غزّة جاءت بعد موجة تطبيع رسمية ووعود بالتطبيع لا سابق لها، من دون أن يغيّر ذلك شيئا في سلوك هذه الدولة المارقة تجاه المدنيين ودور العبادة، ولا في خطابها المناوئ للسلام والتعايش، ولا في الحقوق الفلسطينية الأساسية. هذا بالرغم من أن وقف مسار التطبيع لم يكن قط من أهداف عملية 7 أكتوبر التي نفذتها حركة حماس، إذ إن نسبة 2% فقط من المستطلعة آراؤهم ذهبوا هذا المذهب، ما يدلّ على أن العملية ذات أهداف وطنية خالصة تتعلق بمقاومة الاحتلال. أما مسار التطبيع ومستقبله، فهو منوط بالدول العربية شعوبا وحكومات، وما القول إن عملية حماس أريد بها "التدخّل" في قراراتٍ عربية إلا محاولة لتخريب العلاقات العربية رسميا وشعبيا.
ارتفعت نسبة رافضي الاعتراف بإسرائيل من 84% إلى 89%، بما يؤكّد أن التطبيع ليس خيار الناس أبداً
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فما إن يؤتى على ذكر دولة الاحتلال، حتى يحضر اسم الولايات المتحدة، إذ تتبادل الدولتان دور التابع والمتبوع للدولة الثانية حسب الظروف ومساق المشكلات والحلول (إزاء الموقف من إيران تتبع تل أبيب لواشنطن، وحيال الصراع والتسوية في الشرق الأوسط، فإن واشنطن تتبع تل أبيب). وبينما تحظى الدولتان معاً بموقع مصدر التهديد الأكبر، وبنسبة 78% من المستطلعين، فإن الولايات المتحدة التي تُغدق العطاء من أموال الناخبين الأميركيين على دولة الاحتلال "المتطوّرة والمزدهرة"، فإن نسبة 51% باتوا يرون أن أميركا تمثل التهديد الأكبر أو المركز الأول، فيما يؤيد 26% الرأي القائل إن إسرائيل هي التي تمثل التهديد الأكبر (وحيث الاختلاف على حجم التهديد وليس طبيعته ووجوده)، وقد ارتفعت نسبة من يرون دولة العم سام مركزا للتهديد الأكبر من 39% إلى 51% في غضون عامين. وبينما رأى 14% أن واشنطن جادّة بإقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة مقابل 68% يرون أنها "غير جادّة على الإطلاق". وبهذا، تنجح الدولة العظمى في أن تحصد مزيدا من النقمة عليها في صفوف الرأي العربي العام، نتيجة التصاقها بكيان عنصري مارق، وليس نقمةً على أميركا بذاتها التي لا يكتم عربٌ كثيرون إعجابهم بنمط الحياة والنظام العام فيها. ويمثل هذا التوجّه بوضع السياسة الخارجية الأميركية الشرق أوسطية موقع الصدارة ضمن تهديدات الأمن القومي الجماعي ورقة بأيدي صانعي القرارات العرب في تعاملهم مع الإدارة الأميركية، والتي يتداول مسؤولون كبار فيها زيارة دول منطقتنا منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ويبيعون، في أثناء ذلك، كلاماً معسولاً عن جدّية إدارتهم في صنع سلام شامل، فيما هم يغذّون آلة الحرب الإسرائيلية على غزّة والضفة الغربية، بكل ما تحتاجه من وسائل الشحن والدعم المالي والتسليحي والدبلوماسي.
ومع أهمية هذا الاستطلاع، ومع الفائدة المتوخّاة لإجرائه دوريا لمعرفة اتجاهات الرأي العام في ظرفٍ بعينه أو حتى خلال فترة بذاتها، فإن نتائج استطلاع أواخر العام 2023، والأيام الخمسة الأولى من العام الجاري، لم تحمل مفاجآت كبيرة بما يتعلق برؤى الجمهور وتوجّهاته، إذ تتعلق النتائج بين استطلاع وآخر بدرجة المناوأة أو القبول، فقد ارتفعت، على سبيل المثال، شعبية حركة حماس إلى 69% إثر عملية 7 أكتوبر، وهو ارتفاع ملحوظ، وكان، في أحد جوانبه، ثمرة الإيمان بالمقاومة خيارا ضد الاحتلال المتغطرس، ولما اندفع إليه الاحتلال من تجريد حرب بربرية ضد المدنيين والحياة المدنية تحت عنوان الحرب على "حماس".