اشتراكية أم رأسمالية بخصائص صينية؟
ستشهد الأيام المقبلة المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، وذلك فيما تواجه الصين أزمات داخلية كبرى، وخارجية كذلك. داخلياً، هناك أثار فيروس كوفيد على نسب نمو الاقتصاد، والاختلال الكبير بين الريف والمدينة وازدياد عدد الأثرياء وارتفاع نسبة الفقراء، ومشكلات تتعلق بتلوث البيئة والطاقة والجفاف ونقص المياه. خارجياً، هناك قضية تايوان، والعداء المتصاعد مع الولايات المتحدة، وقضية الاستثمار الصيني الكبير في أفريقيا والعالم، وكيفية تطوير استراتيجية الحزام والطريق التي بدأت منذ 2013، أي مع مجيء الرئيس شي جين بينغ.
أجرى الرئيس شي في 2018 تغييراً في الدستور، يسمح له بولاية ثالثة، وأدخل أفكاره في المناهج التعليمية. وهذا يعني أنّه أحكم السيطرة على الحزب الشيوعي الصيني وعلى الدولة. وإذا كانت الدولة الصينية قد انتهجت الإصلاح والتطوير في 1976 بشكل كامل، أي إصلاح الداخل والانفتاح على الاقتصاد العالمي، وبدأت بذلك عبر العلاقة مع الولايات المتحدة، وفتحت السوق الصيني للاستثمارات الأميركية والأجنبية، فإن الرئيس شي يستمر في السياسة ذاتها خارجياً، ولكنه يتّجه نحو ديكتاتورية في الداخل أكثر فأكثر، فهو عدّل الدستور لصالحه، وقام بحملات ملاحقة واسعة للفساد. وتؤكد أكثر التحليلات أنّها شملت أعداداً كبيرة من المعارضين لسياساته، ولصلاحياته الكبيرة في شؤون الحزب والدولة.
أجرى الرئيس شي في 2018 تغييراً في الدستور، يسمح له بولاية ثالثة، وأدخل أفكاره في المناهج التعليمية. وهذا يعني أنّه أحكم السيطرة على الحزب الشيوعي الصيني وعلى الدولة
عام 1976 هو عام التغيير الحاسم لصالح الرأسمالية في الصين حيث الانفتاح، والتغيير لصالح الرأسمال الداخلي والخارجي. وكانت كل التغييرات اللاحقة تهدف إمّا إلى تطوير رأسمالية الدولة أو الرأسمال الخاص والاستثمارات الخارجية وتهميش دور الفلاحين والعمال في "إدارة" ملكيات الدولة. وكانت حصيلة ذلك ارتفاع موقع الصين عالمياً لتصبح الاقتصاد الثاني بعد أميركا، وازدياد أعداد المليارديرات الصينيين، الذي لا يمكن أن يكون إلّا على حساب حقوق أغلبية الشعب الصيني.
هناك ارتفاع في مستوى المعيشة بالصين. وفي حملتي 2015 و2020، انتُشِل أكثر من مائة مليون صيني من الفقر المدقع. وهنا لا ننسى أن الصين تزيد على مليار وأربعمائة مليون مواطن. وترافق هذا الارتفاع شروط عمل جائرة، وهناك عمالة تزيد على المليوني صيني من دون حقوق أساسية، حيث ترتبط الحقوق هذه بالمكان المولود فيه الشخص، وهم قادمون من الريف للعمل في المدينة، لتحسين شروط حياتهم. وتفيد تحليلات بأن تلك الملايين تتعرّض لمختلف أشكال الاستغلال، وعلى حساب فائض قيمة عملها، تزداد ثروات أولئك المليارديرات، وترتفع ثروة الدولة الصينية كذلك. عكس هذا المنطق، هناك من يشيد بحملة التخلص من الفقر المدقع، ويرى أن سياسات الدولة الصينية استمرار لسياسات قديمة انتهجها ماو تسي تونغ، وتعتمد آلية التوازن بين الريف والمدن في الأجور، وتطوير الزراعة والصناعة معاً. وكانت نتائج القفزة الكبرى والثورة الثقافية عدم تكريس البيروقراطية الحزبية أو شخصيات معينة في قيادة الدولة، وساهمت بتنمية الزراعة والصناعية. وأمّا وجهها السلبي، وهو ما يجري تغييبه في المنطق السابق، فكان في حدوث مجاعاتٍ رهيبة، وفي تعزيز سيطرة الحزب، ومنع أي شكل من الحريات، وصولاً إلى قمع آلاف الشباب وقتلهم في ساحة تيان إن آمين، أو الميدان السماوي في 1989.
تنتهج الصين سياسة رأسمالية الدولة، وتمكين رأس المال الخاص وحماية مصالحه، ولكن أيضاً تُخضعه لسياساتها العامة، وعدم الانفتاح الكامل على السوق المالية الدولية
يُحكم الرئيس شي جيانغ سيطرته، كما قلنا، أي إنّه يفرض دولة بوليسية في الداخل. يريد بذلك مع فريقه التحكّم بسياسات الصين عقوداً طويلة. والسؤال: هل يستطيع تجاهل المشكلات الداخلية، واختلال التوازن بين الزراعة والصناعة، والاستمرار في نظام العبودية ضد حقوق العمال، ومنع كل أشكال الإضرابات والمطالبات بالحريات العامة أو بتحسين شروط العمل؟
يقف التاريخ الصيني أمام عيني شي والقيادة الصينية، فهو يؤكّد أن الصين لا يمكن أن تعود إلى الخلف، وأن التنمية بين الريف والمدينة قضية مركزية لاستمرار الحكم. هناك من يذكر أن الاشتراكية لا تتحقق إلّا بغياب الحريات، وما أحدثته الثورة الصينية من نقلة نوعية في الصناعة والزراعة قبل 76 يفيد بذلك، وهو تحقّق تاريخياً في الاتحاد السوفييتي وفي فيتنام أيضاً. هذا صحيحٌ بما يخصّ ما تحقق في التاريخ، بينما اعتماد الديمقراطية وحده ما يحقق مصلحة الناس، ويحترم كرامتها، ويسمح بالوصول إلى الحقوق، ويطوّر الدول ويحدُّ من أزماتها. المقصد هنا أن الحزب الشيوعي الصيني أمام واقع جديد، يقول بتطور الرأسمالية الكبير في الصين، وهناك وجه إمبريالي أصبح واضحاً، حيث عبر "الحزام والطريق" راحت تسيطر على بلدان أفريقية كثيرة، وتفرض بضائعها على أسواق كثيرة. ومنذ سنوات راحت تبني قواعد عسكرية في الخارج، وتدعم أنظمة ديكتاتورية أو تقيم معها علاقاتٍ غير متكافئة، وتُغرقها بالديون، وتقع الدول تلك بالتبعية الاقتصادية لصالح الصين. وبالتالي، هل ستستطيع الصين، كما أوروبا وأميركا الاستمرار بنهب العالم، ورشوة الأغلبية الصينية، العمالية والفلاحية، وتطوير الداخل الصيني؟ وهل هذه السياسة التي ينتهجها الحزب الشيوعي، وسيكرّسها في مؤتمر العشرين تُبقِى له صلة بالاشتراكية؟ وهل للتحليل القديم أنّ الصين تبني اشتراكية بخصائص صينية مكانة بعد الآن؟ والأدقّ أنه جرى التخلي عنها بشكل حاسم منذ 1976، عام الإصلاح والانفتاح.
تنتهج الصين منذ حينه سياسة رأسمالية الدولة، وتمكين رأس المال الخاص وحماية مصالحه، ولكن أيضاً تُخضعه لسياساتها العامة، وعدم الانفتاح الكامل على السوق المالية الدولية. وتقوم هذه الفكرة من خلال ضبط أسعار العملة الصينية، ومنع المضاربات المالية بشكل فوضوي. وفي 2020، أُوقِف رئيس أكبر شركة صينية، علي بابا، بسبب تصريحات اقتصادية له تنتقد تدخل الدولة في ضبط التعاملات المالية، ومطالبته بحرياتٍ واسعةٍ لصالح عمل رأس المال في الداخل الصيني.
أصبحت الصين تمارس سياسات إمبريالية وتتنافس مع الدول العظمى في السيطرة على العالم
ثروة الدولة الصينية الكبيرة، وهي تمتلك أغلبية القطاعات الصناعية الاستراتيجية وملكية الأرض، ولم تعمل على خصخصتها استجابةً للسياسات النيوليبرالية العالمية في تسعينيات القرن الماضي، تسمح للدولة بالاستمرار في سياساتها العالمية، والمنافسة مع الاقتصاديات العالمية، ومواجهة الولايات المتحدة التي تضع الصين أكبر خطر حقيقي يواجهها، لا تقارن بها روسيا، فالصين تمتلك ثاني اقتصاد عالمي.
مشكلة الصين الآن، ولا سيما بعد فيروس كورونا، تكمن في تراجع النمو، وارتفاع نسب البطالة، وتراجع سلاسل الإمداد الدولية، واتجاه دول كثيرة نحو تطوير صناعاتها محلياً وعدم الاعتماد على الصين، وتزداد العلاقة مع أميركا تعقيداً؛ فالضرائب على بضائعها لم تتغير في زمني ترامب وبايدن، أي الجمهوريين والديموقراطيين، وهناك الآن ما يشبه التهيئة لحربٍ بخصوص تايوان، والعالم يتعسكر باطرادٍ بسبب حرب روسيا على أوكرانيا.
هل تتمكّن الصين من مواجهة مشكلات الداخل، وتَجنُب التصعيد مع أميركا، والاستمرار باستراتيجية الحزام والطريق؟ ما هو أكيد أن الصين أصبحت تمارس سياسات إمبريالية وتتنافس مع الدول العظمى في السيطرة على العالم، وتنهب أفريقيا خصوصاً، ويزداد نظامها شمولية، وضد الحريات في الداخل. وبالتالي، هل ستتفادى الأزمات الداخلية ونظام العمل "العبودي"، وتنهض بالداخل وتتفادى الحروب العالمية؟ هل سيناقش الحزب العتيد هذه القضايا في مؤتمره؟