اعتداءا البولسوناريين والترامبيين ... بعض الفوارق
من المبكّر الإفراط في استخدام تعابير من نوع الانتحار السياسي أو الخطوة اليائسة أو القفزة في الهواء لفهم ما فعله مؤيدون لليميني المتطرّف جايير بولسونارو في البرازيل يوم الأحد الماضي. في المقابل، يبدو وصْف الانتحار أميناً لما فعله ترامبيّون في السادس من يناير/كانون الثاني 2021 باقتحام مبنى الكونغرس في العاصمة واشنطن. وبين الحدثين، قد يكون الأكثر دقة القول إن الجامع بين 8 يناير البرازيلي و6 يناير الأميركي أنه اعتداء شعبوي يميني متطرف على الديمقراطية وعلى مؤسساتها.
في برازيليا، اقتحم آلاف من أنصار الرئيس السابق بولسونارو، من بين الأشد تطرّفاً في يمينيتهم، مباني القصر الرئاسي والكونغرس والمحكمة العليا لعلّهم يستدرجون انقلاباً عسكرياً يطيح الرئيس اليساري لولا دا سيلفا ويعيد إلى السلطة بولسونارو المُطاح به في انتخابات 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 (حصد فيها حوالي 58 مليون صوت مقابل نحو 60 مليوناً لخصمه الفائز لولا). إذاً أوجه الشبه هائلة بين الحدثين الأميركي والبرازيلي، تماماً مثلما هو التماهي بين شخصَي دونالد ترامب وجايير بولسونارو. كلاهما خسرا الانتخابات، فادعيا أنه تمت سرقتها منهما من قبل "اليسار المتطرف" مثلما يسمّي الترامبيون الحزب الديمقراطي (تخيّلوا!)، ومن "الشيوعيين" على حد وصف البولسوناريين كل خصومهم في معسكر اليسار البرازيلي. حتى أداة السرقة المزعومة واحدة، واسمها "التصويت الإلكتروني". و"الجيش" قد يكون الكلمة التي ترسم خطاً فاصلاً عريضاً بين الحدثين الأميركي والبرازيلي. أنصار ترامب لم يطالبوا العسكر جدياً بالتدخل على شكل انقلاب عسكري لقلب نتائج الانتخابات، لعِلمهم، ببساطة، أن هذا غير وارد لألف سبب وسبب. لذلك فإنّ خطاب الترامبيين وسلوكهم ركزا على التسلح الذاتي لتنفيذ انقلاب شعبي هو أقرب ما يكون إلى الانتحار السياسي لزعيمهم ترامب.
بين الأدوار المباشرة لبولسونارو وترامب في الاعتداءين، اختلافات جذرية: الأول كان في فلوريدا حين كان أنصاره يحاولون تنفيذ انقلابهم بيدهم بما أن الجيش رفض تلبية رغباتهم. أما ترامب فكان في البيت الأبيض يتابع العملية شخصياً بعدما فجّرها في خطابه الذي ألقاه أمام أنصاره صبيحة السادس من يناير بالقرب من مقر الرئاسة، ليكمل ما بدأته تغريدته على "تويتر" في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2020، والتي اعتبرتها لجنة مجلس النواب للتحقيق في الهجوم على الكونغرس بمثابة الدعوة الرسمية لهم لارتكاب ما ارتكبوه. والتغريدة الشهيرة حثّهم فيها على النزول إلى واشنطن في 6 يناير لتنظيم مسيرة حاشدة واعداً بان تكون "جامحة"، ونصّها الحرفي: Big protest in D.C. on January 6th. Be there, will be wild!. أكثر من ذلك، كان ترامب ينوي الذهاب إلى مبنى الكابيتول بنفسه، لكن عملاء الخدمة السرية منعوه من القيام بذلك، على حد اعتراف كاسيدي هاتشينسون، مساعدة مارك ميدوز، كبير موظفي ترامب.
في الاختلاف الجوهري بين الحدثين الأميركي والبرازيلي، مركزية مؤسسة الجيش سياسياً في برازيليا وهامشيتها في واشنطن. بولسونارو، الضابط السابق في الجيش (المؤسسة الحاكمة فعلياً حتى عام 1985، وآخر انقلاب نفذته كان في 1964)، يملك ولاء قيادات كثيرة حتى اليوم في صفوفه. هو الذي عيّن طيلة حكمه (2019-2022)، آلاف الضباط في وظائف حكومية رفيعة المستوى. وإن صدّقنا أنباء كثيرة تصل من برازيليا، فإن طرفاً ما سمح لأنصار بولسونارو باقتحام المؤسسات، ذلك أن الشرطة العسكرية هي التي كانت تتولى إجراءات الحماية. وإن كان التقصير الأمني يأخذ طابعاً تقنياً وظيفياً في بلد لم يشهد انقلاباً عسكرياً في تاريخه كأميركا، فإنه يوقظ شياطين التواطؤ والمؤامرات في بلدِ انقلاباتٍ مثل البرازيل.
في حالات الانقسام السياسي العمودي، تظهر إحدى أعزّ قيم الديمقراطية كناظم سلمي للخلافات وحتى للعداوات. في بلدٍ مؤسساته الديمقراطية راسخة للغاية كأميركا، تحوّلت مغامرة ترامب إلى انتحار سياسي تجري حالياً محاسبته عليه قضائياً وشعبياً. وفي بلد تشوب السياسة فيه تدخلات عسكرية وتشوهات اقتصادية واجتماعية تُضعف متانة المؤسسات، كالبرازيل، يصبح الجهد المطلوب مضاعفاً للحفاظ على الديمقراطية وإن كانت رخوة، لكن الحاصل حتى اليوم لاحتواء الاعتداء وتداعياته ومحاسبة المسؤولين عنه، يبشر بالخير.