اعترافات أوباما الصادمة عن ثورة يناير
للجزء الأول من مذكرات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أهمية كبيرة، لأسباب عديدة، فهذه المذكرات الصادرة في منتصف الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وعنوانها "أرض موعودة"، هي أول ما ينشره أوباما عن فترة حكمه، وما شهدته من أحداث، حيث تشرح ما جرى خلف الستار ودار في عقل الرئيس السابق عندما كان يجلس في البيت الأبيض، اعتمادا على معلومات توفرت له بصفته رئيسا لأميركا. لذا تحتوي المذكرات على معلومات هامة تنشر لأول مرة، كهدف الحوار الذي دار بينه وبين الرئيس المصري السابق حسني مبارك خلال حديثهما الأخير في 31 يناير/ كانون الثاني 2011.
أوباما أستاذ جامعي ومؤلف قدير، لذا حرص في الكتاب على وضع مواقفه تجاه القضايا المختلفة في سياق سياسي أعمّ، يتناول مواقف كبار مساعديه، ومواقف مؤسسات إدارته الرئيسية، وتاريخ سياسات بلاده تجاه قضايا معينة، كالعلاقات مع مصر. لذا تعد قراءة المذكّرات بمثابة مراجعة نهائية ضرورية لمواقف آخر إدارة ديمقراطية تولت الحكم في الولايات المتحدة، وكيف يصنع الديمقراطيون سياستهم. بمعنى آخر، نشر مذكرات أوباما وقراءتها في هذا التوقيت يمكن أن تساعد كثيرا في فهم كيف يمكن أن يحكم الرئيس المنتخب، جو بايدن، والذي عمل نائبا لأوباما، وفي طريقه إلى الاستعانة بكثيرين من موظفي إدارته في الإدارة الجديدة.
تعد قراءة مذكّرات أوباما بمثابة مراجعة نهائية ضرورية لمواقف آخر إدارة ديمقراطية تولت الحكم في الولايات المتحدة، وكيف يصنع الديمقراطيون سياستهم
مصر حاضرة بقوة في مذكرات أوباما، وكذلك المنطقة والربيع العربي، حيث يذكرهما في افتتاحية كتابه وفي فصول مختلفة، ويتحدّث عن مدى سعادته وسعادة مساعديه المقرّبين، و"الفخر" الذين شعروا به يوم إعلان مبارك تخليه عن الحكم، وكيف شعروا أنهم شاركوا في لحظة تاريخية مميزة، كما يتحدّث عن تعاطفه مع الشباب الذين شاركوا في مظاهرات ميدان التحرير، وكيف أنهم يشبهون شباب حملته الرئاسية، وبأنه كان سيشارك في مظاهرات التحرير لو كان شابا مصريا.
ولكن هذه النهاية السعيدة لمواقف إدارة أوباما خلال أسابيع الثورة الأولى تخفي وراءها صورة واقعية، وربما سلبية صادمة، للسياسة الأميركية تجاه مصر، لا يتردد أوباما في الحديث عنها، انطلاقا من عاملين: رغبته في أن يكون أمينا مع القارئ، كما ذكر في مقدمة كتابه، وحديثه عن نفسه رئيسا واقعيا حاول، قدر استطاعته، ولكنه وُوجه بعالمٍ "بلا أوهام" أكثر تعقيدا وتردّيا، لا يتردد فيه القادة العرب في التمثيل و"ارتداء الأقنعة" أمام الرئيس الأميركي، ليعودوا، بعد لقائهم معه، إلى "مطاردة المعارضين بلا رحمة"، وتتحالف فيه أميركا مع الحكام العرب المستبدّين حفاظا على مصالحها. لذا لا ينسى أوباما أن يذكر أن مصر تحولت إلى حليفٍ لأميركا منذ توقيعها اتفاقا للسلام مع إسرائيل، وأن "الإدارات الأميركية المتعاقبة تغاضت عن فساد النظام المتزايد، وسجله الرديء في حقوق الإنسان، وعدائه الموسمي للسامية"، وكيف أن المساعدات الأميركية والخليجية للنظام المصري، منذ ذلك الحين، جعلت مبارك غير مشغول بإصلاح اقتصاد بلاده، ما ترك أجيالا من الشباب المصريين بلا عمل.
كما يقول أوباما إن خطابه في القاهرة في يونيو/ حزيران 2009، كان يندرج، بالأساس، تحت جهوده لمكافحة الإرهاب، من خلال مخاطبة الرأي العام الإسلامي وأسباب العداء بين الطرفين، وإنه حينما التقى مبارك تحدّث معه عن "خطوات يمكن أن يتّخذها لإطلاق السجناء السياسيين وتخفيض القيود عن الإعلام"، وأن مبارك تفادى أسئلته، مؤكّدا أن "قوات أمنه تستهدف المتشدّدين الإسلاميين فقط". وذلك في إشارة إلى محدودية مطالب أوباما في ذلك الحين، وكيف أنه لم يهتم بقضية الديمقراطية والإصلاح السياسي. لذا يقرّ أوباما ببعض النقد الموجّه إلى خطابه في القاهرة، مثل "السذاجة" و"فشله في تطبيق رؤية الخطاب من خلال أفعال مؤثرة وذات معنى"، مؤكّدا، في الوقت نفسه، على أنه حاول، بكل طاقته، الدفع في اتجاه كل ما تحدث عنه في الخطاب.
يقرّ أوباما ببعض النقد الموجّه إلى خطابه في القاهرة، مثل "السذاجة" و"فشله في تطبيق رؤية الخطاب من خلال أفعال مؤثرة وذات معنى"
ويذكر أوباما أن سامانثا باور، التي كانت تعمل في مجلس الأمن القومي، ثم أصبحت سفيرته في الأمم المتحدة، انتقدته في مايو/ أيار 2010، لأن إدارته لم تصدر حتى اعتراضا رسميا على تمديد مبارك قوانين الطوارئ عامين، وأنه أخبرها بأن إدارته لا تمتلك استراتيجية واضحة تجاه المنطقة، وأن لا أحد يعمل على تطوير مثل هذه الاستراتيجية. لذا طالب مؤسّسات الخارجية والدفاع والاستخبارات، في أغسطس/ آب 2010، بوضع استراتيجيةٍ "لتشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي" في المنطقة، وأنه على الرغم من تشاؤم الدبلوماسيين والخبراء الذين استعانوا بهم، إلا إنهم وضعوا "مجموعة من القواعد المرشدة لتحول الاستراتيجية" الأميركية تجاه المنطقة. وكان من شأن هذه القواعد أن توحّد "رسالة" المؤسسات الأميركية في "المطالبة بالإصلاح"، وأن تطوّر "توصياتٍ محدّدة لتحرير الحياة السياسية والمدنية" في عدة دول، وأن هذه القواعد كانت جاهزة للتوقيع في ديسمبر/ كانون الأول 2010. وطبعا جاءت التوصيات متأخرة، كما يعترف أوباما، لأن مظاهرات الربيع العربي التي لم يتوقعها أحد، كما تفيد المذكرات، عاجلته.
ويؤكد أوباما أن ثورة يناير في مصر وضعت إدارته في موقفٍ كانت تتمنّى تفاديه، يحتّم على الإدارة الأميركية الاختيار بين "حليف قمعي ولكن يمكن الاعتماد عليه، وشعبٍ يصر على التغيير". وأنه على الرغم من إعجابه بشباب ميدان التحرير، إلا أنه كان يخشى من أن القوى الرئيسية المنظمة في المجتمع، وبعيدا عن الجيش المصري، هي الإخوان المسلمون، والذين يمتلكون "أيديولوجية أصولية جعلتهم لا يعتمد عليهم راعيا للتعدّدية الديمقراطية، ومصدر مشكلاتٍ محتملاً للعلاقات المصرية الأميركية".
تكشف مذكّرات أوباما عن الهيمنة الصارخة للمصالح الفجّة على سياسات أميركا تجاه مصر، وافتقارها للمبادئ والقيم
ويذكر أوباما أن مطلبه الأول من مبارك بعد مظاهرات 28 يناير كان "بعض الإصلاحات الجادّة"، مثل "إنهاء حالة الطوارئ وإعادة الحريات السياسية والإعلامية، ووضع تاريخ لانتخابات وطنية حرّة"، ويضيف أن تلك الإصلاحات كانت تهدف إلى منح المعارضة فترة لتطوير نفسها، وأن تسمح لمبارك "بالتقاعد كرجل دولة". ويضيف أيضا أن تلك المطالب كانت تهدف إلى "تخفيف الاعتقاد في المنطقة بأننا كنا راغبين في إلقاء حلفائنا مع أول شعور بمشكلة". ويقول أوباما إنه مع تطور الأمور، واستمرار المظاهرات، طالب مبارك، في حديثهما الهاتفي الأخير، في 31 يناير/ كانون الثاني 2011، بإعلان تخليه عن الحكم فورا "لو أراد ضمان انتخاب حكومةٍ لا يسيطر عليها الإخوان، لأن استمراره في الحكم وإطالة عملية الانتقال السياسي سوف تكونان أكثر شيءٍ خطورة على مصر". ولكن مبارك أصرّ على البقاء في الحكم، وعلى أن "المظاهرات سوف تنتهي قريبا"، مؤكّدا على أن أوباما لا يفهم ثقافة الشعب المصري، وأن الشعب المصري "عاطفي". وهنا يقدّم أوباما عدة اعترافات مهمة، وربما صادمة، حيث يقول لولا "إصرار الشباب في التحرير"، فإنه في الحقيقة كان يمكنه "التعايش مع أي خطة انتقالٍ حقيقية للسلطة، قدّمها مبارك، حتى لو سمحت ببقاء أغلب شبكة النظام القائمة"، وإنه لولا إصرار المتظاهرين لاستمر في العمل مع مبارك خلال ما تبقى من رئاسته، على الرغم من مواقف مبارك، ولاستمر في العمل مع بقية "النظام السلطوي الفاسد المتعفّن، المسيطر على الشرق الأوسط"، مستشهدا بمقولة أحد مساعديه. وبهذا، يؤكد أوباما أنه لولا استمرار المظاهرات وإصرارها، لما طالب مبارك بإعلان تنحّيه فورا عن السلطة في 31 يناير، كاشفا مدى انخفاض سقف توقعاته. ولكن أوباما يوضح أن موقفه السابق لم يكن سهلا، لعدة أسباب:
أولا، أنه كان يعلم أن أي قائد قد يخلف مبارك "قد يكون أسوأ بالنسبة لأميركا" ومصالحها. وثانيا، أنه وقف في قراره هذا ضد نصيحة كبار مستشاريه، مثل نائبه جو بايدن ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، والذين مالوا إلى الحفاظ على مبارك. ويشير إلى أنه لولا موقفه وموقف مساعديه الشباب، لما مالت إدارته إلى مطالبة مبارك بالرحيل، وإلى أنه بذل جهدا كبيرا لتوحيد رسالة إدارته، وإيقاف مساعديه عن إرسال رسائل متناقضة عند حديثهم للإعلام، حتى أنه اضطر للاتصال بهيلاري كلينتون خلال حضورها مؤتمرا للأمن في ميونخ، لأنها "حذّرت من مخاطر التحول السريع في مصر"، حيث طالبها بالتوقف عن إرسال "رسائل متضاربة"، لأنه "اتخذ قرارا"، وعلى إدارته أن تكون موحدةً خلف رسالته المطالبة بإعلان مبارك تنحّيه فورا.
وثالثا، وقف أوباما ضد ضغوط رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، وقادة عرب، وفي مقدمتهم العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، الذين حذّروه من التخلي عن مبارك، حيث أبلغه بن زايد بأن سقوط مبارك وصعود الإخوان المسلمين إلى الحكم يعني "سقوط ثمانية قادة عرب آخرين"، وأن بيانات أوباما "توضح أن أميركا ليست شريكا يعتمد عليه في المستقبل البعيد".
كأن أوباما يكشف، بغير قصد، كيف عجزت السياسة الأميركية عن التخلص من تناقضها
رابعا: يكتب أوباما أيضا أن ضغوطه ربما "نجحت"، في النهاية، في إقناع قادة الجيش المصري بالتخلّي عن مبارك، لأنه حرص على مطالبة قادة وزارة الدفاع (البنتاغون) والاستخبارات الذين يمتلكون علاقات شخصية ومباشرة بقادة الجيش المصري على الاتصال بنظرائهم في الجيش المصري لإبلاغهم رسالتين، بعدما وقف الجيش المصري "لا يحرّك ساكنا" أمام قمع أنصار مبارك لمتظاهري التحرير في "موقعة الجمل" في الثاني من فبراير. الرسالة الأولى "أن موافقة الجيش المصري على قمع المتظاهرين سوف تترك تبعاتٍ خطيرة على أي شراكةٍ مصرية أميركية في المستقبل". الثانية أن "التعاون المصري الأميركي والمساعدات لا تتوقفان على بقاء مبارك في الحكم". ويقول أوباما إن قوات الجيش المصري بدأت تتحرّك مساء الثالث من فبراير للفصل بين المتظاهرين وأنصار مبارك.
وبهذا تكشف مذكّرات أوباما عن الهيمنة الصارخة للمصالح الفجّة على سياسات أميركا تجاه مصر، وافتقارها للمبادئ والقيم منذ اتفاقية كامب ديفيد، وعن أن إدارة أوباما لم تمارس أي ضغوط على مبارك لإجراء إصلاحات سياسية قبل انتفاضة المصريين في يناير، ولم تمتلك رؤية واضحة أو موحدة في بداية المظاهرات، وأن سقف توقعات الرئيس الأميركي نفسه كان منخفضا للغاية في أوج ثورة المصريين، وكان يكفيه إعلان مبارك تخليه عن الحكم لتهدئة المتظاهرين، والحفاظ على استقرار مصر، حتى لو بقي مبارك يدير المشهد من خلف الستار، وحافظ على نظامه القديم، على أن يجري انتخابات حرّة. وفي هذه النقطة بالتحديد، يناقض أوباما نفسه، فكيف يمكن أن يبقى مبارك خلف الستار وتقيم البلاد انتخابات حرّة!؟ وكأن أوباما يكشف، بغير قصد، كيف عجزت السياسة الأميركية عن التخلص من تناقضها وهيمنة مصالحها على سياساتها تجاه مصر في أوج ثورة المصريين ومطالبتهم بالحرّية والديمقراطية.