اغتيال السنوار وفلسفة الردع الإسرائيلية

24 أكتوبر 2024
+ الخط -

اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يحيى السنوار، بعد سنة من المطاردة في قطاع عزّة المكشوف للآلة العسكرية الإسرائيلية في حربها الوحشية على الفلسطينيين. كان نجاحاً بمحض المصادفة، وجاء ليفكّك الرواية الإسرائيلية عن السنوار المختبئ في الأنفاق، يحيط نفسه بالأسرى الإسرائيليين ليحتمي بهم. لقد سقط الرجل في الميدان، وفي اشتباك مباشر مع القوات الإسرائيلية، ليذهب في خياره حتّى النهاية التي تمنّاها.

لا يختلف اغتيال السنوار، ومن قبله إسماعيل هنيّة، عن اغتيال قادةٍ فلسطينيين كبار من الطيف السياسي الفلسطيني كلّه في مدى تاريخ الصراع. رغم حدوث الاغتيال بالمصادفة، ومن دون مهارات من الاستخبارات الإسرائيلية وقوات النُخْبَة، تحاول إسرائيل تسويق العملية بوصفها إنجازاً، بعد الفشل في تحقيق أهدافها المُعلَنة في حربها الوحشية على قطاع غزّة، فعقلية المؤسّسة السياسية الإسرائيلية، خاصّة اليمينية، لا ترى صراعاً مع شعب آخر على الأرض الفلسطينية، التي تعود لهم بالكامل. وبالتالي، لا ترى القوى الفلسطينية بوصفها قوىً سياسيةً تصارعها من أجل حقوقها الوطنية. لذلك تتعامل معها على أساس أنّها عصابات إرهابية، وفي العصابات هناك تأثيرٌ قويٌّ للقادة الكبار، والمسّ بهم هو أفضل وسيلة للتأثير فيها. إذا قتلتَ قائد المجموعة تتخلّص من تأثيره السياسي". هكذا تتوهّم إسرائيل.

ليس من المبالغة القول إنّ سياسة الاغتيالات الإسرائيلية هي سياسة إنكار، وليست مؤشّر قوّة، بقدر ما هي مؤشّر ضعف. إسرائيل ليست بحاجة إلى عملية قتل جديدة، لتقول إنّ يدها طويلة في المنطقة، وتستطيع الوصول إلى الجميع. لكنّ هذا لن يخدم سياساتها الردعية على الإطلاق، فالقتل ليس سياسةً ردعيةً ناجحةً، خاصّةً مع الفلسطينيين الذين اختبروها، ويدركون منذ زمن طويل أنّهم مشاريع شهادة في الصراع المستمرّ مع إسرائيل من أجل حقوقهم الوطنية.

قائمة الاغتيالات الإسرائيلية للفلسطينيين طويلة جدّاً، تبدأ من حرب جهاز الموساد الإسرائيلي في السبعينيّات من القرن المنصرم ضدّ قيادات منظّمة التحرير والفصائل الفلسطينية. بدأت في 1972 باغتيال الكاتب والقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، غسّان كنفاني، بتفخيخ سيارته في بيروت، كما اغتالت مجموعة دخلت لبنان في العام 1973 القادة الثلاثة في فردان، أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، واغتالت بعدها المسؤول الأمني في حركة فتح، أبو حسن سلامة، في العام 1979، كما اغتالت الرجل الثاني في "فتح" خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس العاصمة العام 1988، الذي اعتبرته مسؤولاً عن انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، واعتقد القادة الإسرائيليون أنّ اغتياله سيخفّض من حدّة الانتفاضة في مواجهة إسرائيل. أيضاً اغتالت عزّ الدين القلق وماجد أبو شرار ومحمود الهمشري وعادل زعيتر وزهير محسن وخالد نزال وغيرهم. حتّى إنّها في حرب الاغتيال في السبعينيّات، اغتالت الشاب المغربي أحمد بوشيقي، الذي كان يعمل نادلاً في مطعم في أوسلو، ظنّاً من الموساد أنّه أبو الحسن سلامة، وهي عملية الاغتيال التي تعرف بـ"قضية ليلهامر"، إذ اعتقلت السلطات النرويجية مجموعة الاغتيال وحاكمتهم، وحكمت عليهم بالسجن مدداً مختلفة.

القتل من أجل الردع هو قتل من أجل القتل، وهو عقيدة وحشية واستئصالية

لم تتوقّف عمليات الاغتيال الإسرائيلية ضدّ كلّ من تعتقد أنّ له فاعلية ما في الصراع ضدّها، فشملت عمليات الاغتيال الجميع؛ اغتالت أبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان لحركة حماس نصيب كبير من عمليات الاغتيال، بدأت بيحيى عيّاش، وتوالت لتطاول أحمد ياسين (مؤسّس الحركة)، وقيادات مثل عبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وأحمد الجعبري وإسماعيل أبو شنب وصالح العاروري وغيرهم، ثمّ إسماعيل هنيّة، وخَلَفه رئيس المكتب السياسي للحركة، يحيى السنوار، أخيراً. كما حاول الموساد اغتيال خالد مشعل في وسط عمّان في العام 2003، عدا عن محاولات الاغتيال الفاشلة، ومحاولات اختطاف قادة، مثل تحويل الطائرة الليبية إلى مطار إسرائيلي في العام 1986، لاعتقاد الموساد أن فيها الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جورج حبش، وكان على متنها وقتها بدلاً من حبش الأمين القطري المساعد لحزب البعث الحاكم في سورية، عبد الله الأحمر، الذي تراجع عن الصعود إلى الطائرة في آخر لحظة، حسب شهادة زوجته.

تقوم فلسفة الاغتيال الإسرائيلية على شقّين: داخلي إسرائيلي، وآخر خارجي يستهدف الفلسطينيين. يسعى الأول إلى إقناع الإسرائيليين بأنّ الأجهزة الأمنية والمؤسّسة السياسية الإسرائيليتين قائمتان على حماية الإسرائيلي من أيّ تهديد، مهما كان مصدره، وأنّها ستلاحق من يحاول المسّ بإسرائيليين، أو من على يده دم إسرائيلي، أينما كان، أي أنّ هناك من يحاول المسّ بالإسرائيليين، أمّا لماذا يُحاوَل المسّ بهم، فهذا السؤال لا تطرحه إسرائيل على نفسها، وكأنّ المسألةَ تقنيةٌ، وأنّ استهداف الفلسطينيين للإسرائيليين اعتباطيٌّ ومجانيٌّ. الشق الثاني، والمعني بالفلسطينيين، يهدف إلى استباحة حياتهم بتهمة "الإرهاب"، وأنّ معركة إسرائيل ليست مع الفلسطينيين، إنّما مع المجموعات "الإرهابية"، التي تجرّ الفلسطينيين إلى أماكن لا يرغبونها، وأنّ ليس لإسرائيل مشكلة مع الفلسطينيين، ولا تحتلّ أرضهم ولا تقمعهم وتقتلهم طوال عمر الاحتلال، إنّما مشكلتها مع عدد قليل من "الإرهابيين"، الذين يتّخذون من الفلسطينيين رهائنَ. إنّها سياسة تيئيس الفلسطينيين.

إنّها الإبادة الجماعة بكلّ معنى الكلمة، التي يصمت العالم حيالها

لا يُستعاد الردع من طريق القتل الوحشي، ولا من طريق اغتيالات القادة، فالقتل من أجل الردع هو قتل من أجل القتل، وهو عقيدة وحشية واستئصالية، ولا يمكن تبريرها بخطاب ممجوج باعتبار إسرائيل تمثّل "الحضارة" في مواجهة "البربرية" في حربها الوحشية على غزّة، كما يدّعي بنيامين نتنياهو، ويكرّر في خطاباته البائسة.

لا تكتفي المذبحة الإسرائيلية القائمة في قطاع غزّة بحق الفلسطينيين قتلاً للسكّان وتدميراً للقطاع وتحويل جميع سكّانه نازحين، بل وتعمل إسرائيل على تجويعهم وتحويل غزّة مكاناً غير صالح للعيش؛ من لم يُقتل بالقذائف الإسرائيلية، يُقتل بالتجويع والأوبئة. إنّها الإبادة الجماعة بكلّ معنى الكلمة، التي يصمت العالم حيالها، وتسطيع إسرائيل الاستمرار في القتل، ويستطيع نتنياهو الادّعاء أنّه يصمد في مواجهة العالم، ويستمرّ في ذبح الفلسطينيين. لكنّ دماء عشرات آلاف الضحايا المسفوكة في قطاع غزّة، ودم السنوار وهنيّة وغيرهم، ممّن استهدفتهم إسرائيل بالقتل والاغتيال، لن تعيد الردع لإسرائيل، ليس لأنّها لا تملك القوّة، بل لأنّها تملك فائضاً منها، تستخدمه لإبادة الشعب الفلسطيني واقتلاعه من الخريطة السياسية نهائياً، وبذلك لا تُبقي أمام الفلسطينيين سوى خيار المقاومة، طالما أنّها تُدمّر الحلول الأخرى، في رأسها الحلّ السياسي.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.