الأحزاب الأردنية والانعطافة المطلوبة
تجاوزت أحزابٌ أردنية كثيرة عملية تصحيح الأوضاع، وتمكّن ما قد يصل إلى 30 حزباً سياسياً قريباً من إكمال الشروط المطلوبة، التي كان يُنظر إليها على أنّها صعبة للغاية، ودخلت الأحزاب في مرحلة جديدة من بناء القدرات والأدوات والاستعداد للانتخابات النيابية في صيف العام المقبل، ما يعني أنّ العد التنازلي قد اقترب.
مع ذلك، لا تزال الشكوك كبيرة في مدى قدرة الأحزاب، بخاصة الكبيرة (مثل الميثاق، إرادة، الائتلاف الوطني، الديمقراطي الاجتماعي) أن تكون قادرةً على التجذّر في المجتمع وتطوير العمل المؤسّسي والتماسك الداخلي وبناء حملاتٍ انتخابية وبرامج مقنعة للرأي العام، والسبب في ذلك تغلب المخاوف والهواجس لدى "مطبخ القرار" من نتائج العملية الحزبية على الآمال والطموحات، ما عزّز دعاوى التيارات المتحفظة والمشكّكة، أنّ ما يحدُث لا يتجاوز أن يكون "هندسة حزبية"، وأننا أمام كائناتٍ مدجّنة، مثل أحزاب المخزن في المغرب.
لا ننفي شرعية تلك المخاوف والشكوك وحجّتيهما، لكن من المهم ألا نستسلم لها، ما دام هنالك أمل في التغيير، وبما أنه لا توجد نظرية رئيسية في الأحزاب السياسية تنطبق على التجارب العالمية عموماً، وما دمنا نتحدّث عن خياراتٍ إصلاحيةٍ متدرّجة، وليست ثورية في الأردن.
على الصعيد نفسه، أحد أهم شروط نجاح العمل الحزبي مفقود في الفترة الماضية، ويتمثل بالبيئة السياسية الحاضنة له، التي تتطلّب قدراً كبيراً من "اللبرلة السياسية" (انفتاح سياسي، حرّيات إعلامية وحرّيات سياسية)، بل المفارقة الرئيسية كانت أنّنا نتحدّث عن عملية حزبية وتطوير دور الأحزاب، في وقتٍ يتراجع تصنيف الأردن في مجال الحرّيات العامة والديمقراطية إلى "دولة سلطوية"، ولا تزال هنالك قوائم من المعتقلين السياسيين وقيود أكبر من أي وقت مضى على الإعلام. ففي مثل هذه البيئة، لا يمكن أن يقتنع ابن الشارع أو طالب الجامعة الذي تذهب إليه الأحزاب بالتحرّر من المخاوف والقيود والاندفاع نحو العمل الحزبي والسياسي.
مما زاد الطين بلّة، ما حدث مع حزب الشراكة والإنقاذ من عملية حصار ومضايقاتٍ وإصرار على عدم ترخيصه، بالرغم من الجهود الهائلة التي بذلها قادته لتحقيق العدد المطلوب، في ظل مخاوف كبيرة من العواقب الأمنية على الأعضاء، وبالرغم من قناعة سياسيين عديدين بأن ترخيص الحزب يعزّز من شرعية العملية الحزبية ولا يضرّ بها، وكانت النتيجة معكوسةً تماماً بأن وظّف ما جرى مع الحزب في سياق التشكيك في جدّية الدولة بالانتقال نحو الحكومات الحزبية والتعدّدية خلال الفترة المقبلة.
على صعيد بناء الأحزاب السياسية، كان ملاحظاً الظل الثقيل لدور المؤسّسات الرسمية، وهو أمر لم يخدم هذه الأحزاب، لا على صعيد السمعة الشعبية، ولا حتى على صعيد البناء الداخلي، وانعكس الأمر من خلال ضعف شديد في تمثيل الشباب في المواقع القيادية، وهو الأمر الذي نجمت عنه حالة ملحوظة من الإحباط وخيبة الأمل.
مع ذلك، هنالك كثيرٌ تحقّق وأُنجز في الفترة الماضية؛ تشريعات تقدّمية مهمة، قوانين الأحزاب والانتخاب، ورشات عمل وتدريب وسياسات وبرامج سياسية في الجامعات والتربية والمجتمع المدني. وهنالك أيضاً جسر كبير سياسي وإعلامي أنشئ لبناء العلاقة بين جيل من الشباب والعمل الحزبي بسبب الدعاية الإعلامية والسياسية المصاحبة للتحديث السياسي، وجميعها عوامل مهمّة لتحطيم الجدران النفسية والثقافية بين العمل الحزبي والشارع.
المشكلة باختصار، أن الهواجس تغلبت، بل ضُخِّمَت أيضاً، على الآمال لدى "المسؤولين" في ترجمة مُخرجات التحديث السياسي، ما انعكس على البيئة السياسية التي بدت في واد والخطاب الإعلامي والسياسي عن الأحزاب في واد آخر، وكذلك في مساحة الحرية الداخلية والخارجية المتاحة للأحزاب السياسية، فبدت وكأنّها غير حقيقية في بِنيتها وأنشطتها.
المطلوب أن تكون هنالك نقطة تحوّل في المرحلة المقبلة تتمثّل، أولاً، بالبيئة السياسية باتخاذ إجراءات في الانفتاح السياسي والإعلامي في الحرّيات العامة واحترام حقوق الإنسان، وثانياً أن تُرسَل رسالة واضحة إلى الأحزاب السياسية بأنّ الانتخابات النيابية ستكون حرّة ونزيهة، ولا يوجد فيها أي تدخّل مباشر أو غير مباشر لصالح حزبٍ معيّن، وأن توضع الأحزاب في "مختبر" حقيقي في الاشتباك مع الشارع، لتطوّر مؤسّساتها وأدواتها وقدراتها.