الأردن .. الذاكرة والعرف والمستقبل
يقع التعديل الدستوري المقترح في الأردن من الحكومة، الذي ينصّ على تأسيس مجلس أمن وطني (يتشكّل من الملك رئيساً وعضوية رئيس الوزراء ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية وقائد الجيش ومدير المخابرات العامة وشخصيتين مدنيتين) ضمن حزمة تعديلاتٍ دستوريةٍ وقانونية مطروحة لتطوير الحياة السياسية في البلاد. وقد أضافته الحكومة على التشريعات الموصى بها، القادمة من اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية. ومن الواضح أنّه يأتي في سياق يتجاوز الحكومة إلى قناعةٍ في "مؤسسات الدولة" بضرورة ترتيب الجانب الدستوري بصورة حاسمة، في إطار التمهيد للانتقال نحو حكوماتٍ حزبيةٍ برلمانيةٍ، خلال عقد، بخاصة ما يتعلّق بتداخل الصلاحيات بين الملك، بوصفه، دستورياً، رأس السلطة التنفيذية، ورئيس الوزراء الذي يحظى بثقة مجلس النواب، وصولاً إلى ترسيخ قاعدة واضحة في الحياة الدستورية والسياسية تقوم على أنّ الملك هو "الضامن" لقضايا السياسة الخارجية والأمن والسيادة وحماية الدستور، بينما الحكومة تتولى القضايا الداخلية، بخاصة السياسية والاقتصادية والخدماتية. وضمن هذا التأطير المنظور، الهدف المعلن هو "تحييد" مؤسسات الدولة وتحصينها من خطر الخلافات أو الصراعات الحزبية. لذلك نلاحظ، حتى في توصيات اللجنة الملكية، تأطيراً للوظائف المتعددة في مؤسسات الدولة التي يُشترط ألّا يتولاها حزبيون.
لماذا كلّ هذا التحصين الدستوري؟ أليست الأعراف السياسية الأردنية والتقاليد السياسية المعروفة تاريخياً تعطي الملك هذه الصلاحيات والسلطات من دون الحاجة إلى "نصوص دستورية" تجعله طرفاً مباشراً في ترسيم السياسات، بينما الدستور ينص صراحةً على أنّ "السلطة التنفيذية تناط بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه" ويربط الصلاحيات الملكية بتوقيع وتنسيب من الحكومة (رئيس الوزراء والوزراء المعنيين)؟
نلاحظ أنّ محاولات تأطير الصلاحيات وتوضيحها في إطار السلطة التنفيذية بين الملك والحكومة، ضمن إطار دستوري واضح، ليس وليد اللحظة، فقبل ذلك كانت هنالك تعديلات دستورية أخرى، تعطي الملك وحده حقّ تعيين قائد الجيش ومدير المخابرات العامة ومدير الدرك وتعيين ولي العهد ومواقع قضائية عليا في الدولة، من دون الحاجة إلى تنسيب مجلس الوزراء أو موافقته.
ما الدافع لذلك كله، وما علاقته بتهيئة الأرضية لحكومة حزبية - برلمانية؟ الجواب مرتبط بأمرين رئيسين: الأول يستدعي، في ذاكرة النظام، حوادث تاريخية جرى فيها التنازع على صلاحيات بين الملك ورئيس الوزراء، خلال عقد الخمسينيات (1956)، والحكومة الحزبية - البرلمانية الوحيدة في تاريخ البلاد، بقيادة سليمان النابلسي الذي أراد أن يكون له دور رئيس في السياسة الخارجية، واتُهمت حكومته بمحاولة تدبير انقلاب مع "الضباط الأحرار" في الجيش. الحادثة الثانية ليست بعيدة زمنياً، خلال حكومة عون الخصاونة (2011-2012)، إذ حدث اختلاف بين الملك ورئيس الوزراء في بعض الصلاحيات، ما أدّى إلى استقالة الأخير، في حادثة استثنائية في تاريخ البلاد (جرى العرف ألا يستقيل رئيس الوزراء إلّا بعد أن يطلب منه الملك ذلك).
الأمر الثاني مرتبط بخصوصية "الجيوبوليتيك الأردني" والمعادلات الاستراتيجية التي تحكم العلاقات الخارجية الأردنية التي لا تحتمل، وفقاً للقناعة الراسخة في الدولة، الارتهان لتوجهات الأحزاب السياسية، بخاصة الأيديولوجية (اليسارية والقومية والإسلامية)، وهو أيضاً يستدعي، في ذاكرة النظام، تجربة حكومة النابلسي (1956) نفسها، عندما تنازعت مع الملك الموقف من المعاهدة البريطانية والموقف من الاتحاد السوفييتي حينها.
ضمن هذه المعطيات السياسية والاستراتيجية، يمكن أن نقرأ عملية "توضيح" أدوار الملكية في إطار السلطة التنفيذية. وفي المقابل، ينزع الانتقال من العرف السياسي إلى النصوص الدستورية عن الملك "الدرع الحكومي" في تحمّل الحكومة المسؤولية أمام الشعب، فإذا كان الملك هو من يعيّن قائد الجيش ومدير المخابرات والدرك، وهو من يترأس مجلس الأمن الوطني الذي يتولى أمور السيادة والدفاع والأمن والسياسة الخارجية، فذلك يعني أنّ الاحتجاجات المتعلقة بهذه السياسات والمؤسسات لن تطاول الحكومة ورئيسها، بل الملك شخصياً في الشارع، وهو ما يحاول سياسيون أردنيون إبعاد الملك عنه، طالما يستطيع، من خلال العرف السياسي، تحقيق ذلك من دون "مسؤولية دستورية" سياسية مباشرة!
ثمّة من يرى في التعديلات الدستورية المقترحة نسفاً لمفهوم الحكم النيابي الملكي الوراثي، واقتراباً من النموذج شبه الرئاسي، في الهيكلية العامة، وهناك من يرى ذلك شرطاً مهماً وتمهيداً جريئاً لحكومات حزبية من دون استدعاء "أشباح الماضي".