الأردن نحو الديمقراطية أم السلطوية؟
تتسم التجربة السياسية الأردنية بقدر كبير من الغموض في عملية "طبخ القرارات" وإنتاج السياسات، وقد تجد، في أحيان كثيرة، نسبة كبيرة، إن لم تكن الكبرى، من السياسيين والمحللين والأكاديميين يسعون في تفسير بعض القوانين أو السياسات؛ كيف جاءت؟ ومن أين هبطت؟ وعن أي إبداع عبقري تفتقت؟! لكنهم يعجزون عن ذلك.
المثال الحيّ الجديد هو قانون الجرائم الإلكترونية، الذي أقرّه مجلس النواب، يوم الخميس، على وجه العجلة الشديدة، ومن المفترض ألا يأخذ أكثر من "غلوة سريعة" في مجلس الأعيان، يوم الثلاثاء، ويتم رفعه لتوقيع الإرادة الملكية عليه، فهذا القانون يواجه معارضة كبيرة وشرسة من المجتمع المدني والقوى السياسية وسياسيين كثيرين، ولا يُعرف بعد كيف جرى إعداده وتجهيزه. ومع ذلك، كان هنالك عناد كبير في دوائر القرار لتمريره.
عقد معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع مؤسسة مكانة 360، يوم الخميس، جلسة نقاشية مغلقة ضمّت شخصيات خبيرة ومتخصّصة محلياً وإقليمياً ودولياً. ولأنّ الجلسة خضعت لقواعد Chatham Rules، سأكتفي هنا بطرح ملاحظتي على خلفية ما قيل فيها من معلومات وأرقام وحقائق؛ تصبّ في أغلبها في أنّ القانون كارثة بمعنى الكلمة على مجالات عديدة؛ أولاً الحريات العامة، ثانياً العلاقة بين المجتمع والسلطة، ثالثاً الإعلانات والأسواق الرقمية، رابعاً علاقة الأردن بالشركات والمنصات المعنية بالتواصل الاجتماعي، خامساً عدم واقعيته ولا منطقية عديد من بنوده ومواده والعقوبات التي أقرّها.
دع كل تلك الملاحظات جانباً، وكثير منها مقنعة وصلبة في نقد القانون، ماذا عن مشروع التحديث السياسي؟ ما هي الرسالة الذكية في طرح قانونٍ يوسم بأنه عرفي في وقتٍ نحاول أن نقنع العالم والمجتمع وجيل الشباب بأنّ هنالك توجهات جديّة نحو الديمقراطية وتكريس العمل الحزبي وتعزيز انخراط الشباب فيه، وهل الأحزاب السياسية تولد في "مختبرات" أو "مكاتب هندسية" معزولة عن سياقاتها السياسية والمجتمعية والثقافية والإنسانية؟ أكون ممتنّاً كثيراً لأيّ قارئ كريم يشاركنا نظرياتٍ أو حتى فرضياتٍ أو اتجاهاتٍ في حقل البحوث الديمقراطية لا تربط بصورة قطعية وحاسمة بين القيم الأساسية للحريات العامة والحريات الإعلامية وحقوق الإنسان ونمو التجربة الحزبية؟
ينسف هذا القانون الرصيد السياسي الذي تشكّل في الفترة الماضية في محاولة تشجيع الشباب على الانخراط في الأحزاب، ويثير عواصف من الشكوك، ويعزّز من حجج المشكّكين والمتشكّكين القوية تجاه أي نية حقيقية لدى الدولة في بناء بيئة تنافسية حزبية حقيقية؟! هو باختصار قفزة كبيرة نحو السلطوية السياسية، ولا يحتاج الأمر إلى اختراع العجلة من جديد أو اكتشاف سرّ خارق في ذلك، فذلك مصبوبٌ في أبسط قواعد حقوق الإنسان وفق المعايير الدولية. لذلك تراجع تصنيف الأردن في مؤشّرات الديمقراطية، ويستمر في الطريق نفسها، وفي معايير حقوق الإنسان وتقارير الحرّيات الإعلامية. وهكذا فإنّ الأساسيات المطلوبة لبيئة عمل الأحزاب يتم نسفها بالكلية مع إقرار قوانين لتشجيع العمل الحزبي؛ فقط نحتاج فعلاً إلى مسؤول، أي مسؤول، أن يفسّر لنا هذه الأحاجي الأردنية؟
أليس الأردنيون بحاجة إلى قوانين جرائم إلكترونية؟ بالطبع ممكن جداً، وهنالك دوافع موضوعية وجوهرية لحماية ناسٍ كثيرين، لكن أولاً من خلال قوانين توافقية تخضع لنقاش وطني، والاستئناس بآراء الخبراء ودراسة الأبعاد المختلفة، والانطلاق من فلسفة الحماية القانونية والأخلاقية، وليس من فلسفة الترصّد والعقوبات والمنظور الأمني وتسييس الموضوع بالكلية. وثانياً أن يترك الأمر بين المؤسسات السياسية والمجتمع المدني للتوافق، وليس كما حدث مع هذا القانون وغيره تمريره وكأنه "قنبلة نووية" يخشى أن يكتشف سرّها الباتع؟
إذا كانت هذه العقلية الرسمية، فما الداعي إلى التوجّه إلى الأحزاب السياسية؟ طالما أننا نريد تمرير التشريعات والسياسات بهذه الطريقة، فلا أظن أن هنالك أي مبرّر بقي لتطوير العملية الحزبية، لأنه في مثل هذه الشروط لا يوجد للأحزاب أي دور تقوم به، فعلى مؤسّسات القرار أن تحسم قرارها، إما السير في اتجاه الدمقرطة بهدوء وتدرّج، كما هو معلن، أو السير نحو مزيد من السلطوية كما هو واقع.